في التسعينيات الهجرية كانت هناك شركة إيطالية مكلفة بإنشاء مدارس للبنين في مختلف مناطق المملكة، وكانت إحدى هذه المدارس تقع أمام منزلنا البسيط آنذاك حيث كان والدي -رحمه الله- يجلس في بيت الشعر ويعد القهوة (الشبة) كعادة كل الناس في تلك الأزمنة الجميلة، أما أنا فكنت طفلاً لا أعي شيئاً مما يجري حولي فقط كنت أحتفظ في ذاكرتي الحديدية بهذه الأحداث التي تبدو بعد حين كطيف حلم.
في هذه الأثناء كان ثمة رجل خمسيني يرقب كل ما يجري حوله، كان له شعر طويل منسدل على كتفيه، ويرتدي لباساً عملياً وخوذة فوق رأسه، وكان يبتسم لكل الأطفال من حوله على عكس ما كنا نعهده من الكبار آنذاك من تجهم حيث يطلقون العبارة الشهير التي تنهرنا (يالله يالغويش!)، أما هذا الرجل الذي عرفنا فيما بعد أنه المقاول أو المسؤول عن المشروع فلا يتوانى أن يسألنا بعربية مكسرة عن أسمائنا ويعطينا الحلوى الإيطالية اللذيذة التي لم نكن نحلم حتى بمشاهدتها، ومن عجائب إخلاص هذا الرجل أنه كان يراقب المشروع بنفسه لدرجة أنه ينام في المبنى حديث الإنشاء حتى لا تتعرض محتوياته إلى السرقة.
جيوفاني هذا ما عرفناه عن اسمه، إنه مقاول إيطالي (مسيحي) يشرف على آخر الأعمال والإنشاءات المدرسية في السعودية ويستعد للتقاعد والعودة إلى وطنه بعد سنوات قضاها في المنطقة الشرقية من بلادنا. بالطبع لاحظ والدي جيوفاني ودعاة إلى القهوة العربية في مجلس الرجال الذي كان يسمى (الرفة)، وكان جيوفاني سعيداً بهذه الدعوة، فحضر وأحضر معه دفتراً وما إن دخل حتى قال: (السلام أليكم ورهمة الله وبركاته)، فضحكنا ثم ردينا التحية، فجلس مستنداً إلى (المركى) فقدم له والدي -رحمه الله- التمر وقال له: اقدع!
فأخذ الدفتر بسرعة وقال: ما هي الكلمة التي قلت قبل قليل؟ فقال والدي -رحمه الله-: اقدع! قال: ما معناها؟
فشرح له الوالد معناها، فتحول اللقاء إلى ما يشبه صفوف المدرسة كل شيء يسألنا عنه وعن معناه، وفيم يستخدم حتى امتلأ الدفتر عن بكرة أبيه، وفي الغد دعاه والدي -رحمه الله- إلى الغداء، فوافق فوراً وقد أحضر معه دفتراً جديداً، وفعلاً أكل من الكبسة وأبدى إعجابه بطبخ الوالدة التي ترقب ما يجري من حوار من خلف القاطع (حاجز في بيت الشعر)، واستمرت هذه العلاقة كلما عاد جيوفاني من المنطقة الشرقية التي يسافر إليها وينقطع عنا أسابيع طويلة، ونحن الصغار تحديداً نفرح بعودته لأنه يجلب معه الحلوى لنا، وكنا لا نأكلها إلا على مرأى من أبناء الجيران الذين يلتهموننا بنظرات الحسد والغيرة، وبعد سنوات انقضى المبنى المدرسي وغادر العمال ومعهم جيوفاني الذي لم يعد من الشرقية، وانتقلنا نحن من منزلنا البسيط إلى منزلنا المسلح وكانت البلاد تشهد نهضة عمرانية ليس لها مثيل، ثم التحقنا بالمدارس ودارت عجلة السنين، وذات يوم من أيام الربيع كنا نجلس في الفناء وقد سمعنا منادياً ينادي من الشارع هيساه.. هيساه!
فخرجنا وإذا بجيوفاني وقد تغيرت ملامحه، ولم يعد يتذكر من أسماء العائلة إلا (حصة)، ولم يدرِ أنه أحرجنا بذكر اسمها في الشارع، فأسماء النساء تبدو كأنها عورة في عقلية السعوديين!
فاجأنا جيوفاني بهدية يحملها تحت إبطه وكانت عبارة عن طاولة من الزجاج لها قاعدة من الستانستيل، وكانت جميلة حيث احتفظنا بها في مجلس الرجال سنوات طويلة، ورفض جيوفاني هذه المرة دعواتنا للدخول مؤكداً أنه سيسافر الآن إلى الشرقية ومنها إلى بلاده إيطاليا منهياً عمله في السعودية، ولكنه أصر على وداعنا حيث لم يتسن له ذلك قبلاً!
لقد ترك جيوفاني لدينا جميعاً انطباعاً لا يمحى، رغم أنه كان مسيحياً ووالدي - رحمه الله- كان إمام مسجد منذ شبابه، إلا أن هذه الصداقة دامت سنوات فلك دينك يا جيوفاني ولنا ديننا.
هذه القصة تزورني دائماً كلما سمعت عن دعوة للحوار بين الأديان، إنني أتساءل بحرقة: لماذا نحول الكرة الأرضية إلى صراعات لا تنتهي؟
ليس من صالح البشرية أن تعيش متشنجة على الدوام مع جيرانها أصحاب الأديان الأخرى، لقد أحسن الملك عبدالله بن عبدالعزيز (خادم الحرمين الشريفين) بمبادرته التاريخية بضرورة التحاور بين الأديان، إنه يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، أظنه -وثوابه على الله- قد قام بعمل إسلامي جليل قلما يفكر فيه غيره.
ومن يتابع الساحة الثقافية في البلاد الإسلامية سيجد صراعاً طائفياً ومذهبياً لا مبرر له.
أيها الناس: دعونا نعيش بسلام وحب، أليست هذه هي رسالة الأديان قاطبة؟
Mk4004@hotmail.com