من المعروف أن الاقتصاد الروسي يعتمد بصفة أساسية على عائدات النفط والغاز الطبيعي، حيث تقوم دولة روسيا بضخ 6.5 ملايين برميل من النفط يومياً في أسواق الطاقة العالمية، ويتوقّع بعض الخبراء أن يقفز إجمالي صادراتها البترولية اليومية إلى 9 ملايين برميل، أي ما يعادل ما تصدره المملكة العربية السعودية حالياً. وبسبب فتحها المجال لشركات النفط الأجنبية للاستثمار في ثرواتها البترولية، فقد توقع أحد المحلّلين الغربيين أن تصل صادرات روسيا اليومية إلى أكثر من 15 مليون برميل خلال السنوات القليلة القادمة، ولكن يجب أن لا ننسى أن روسيا هي نفسها من أكبر مستهلكي الطاقة على الصعيد العالمي كونها دولة صناعية تتمتع باقتصاد منتعش، وبالتالي فهي بحاجة إلى كميات متزايدة من النفط لتلبية احتياجها المحلي.
وإذا ما أردنا أن نلقي نظرة مبدئية على إمكانيات روسيا من الغاز الطبيعي، فإنه حسب الإحصائيات المقدمة من هيئة معلومات الطاقة الأمريكية، فإن روسيا تمتلك حوالي 27.2% من المخزون العالمي للغاز، وهذه الكمية كفيلة لتغطية نصف احتياج لروسيا من الطاقة؛ بالإضافة إلى جعلها الدولة الأولى المصدرة للغاز الطبيعي في العالم، إذ تشير آخر الإحصائيات إلى أن روسيا تتكفل حالياً بتغطية 23% من احتياج القارة الأوروبية. إلا أن قدرة روسيا لتوسيع نطاق الإنتاج والتصدير يواجه مشكلات عديدة بلا شك، منها أن معظم آبار النفط وحقول الغاز التي تملكها هي آيلة للنضوب، حيث يتوقّع الخبراء أن يصل إنتاجها النفطي إلى قمته القصوى قريباً إن لم يكن قد وصلها، عندها سيبدأ الانخفاض التدريجي لإنتاجها النفطي بلا رجعة كما انتهى الحال عند 22 دولة منتجة للنفط - على الأقل - حيث وصل إنتاجها النفطي إلى قمته القصوى. ولأن روسيا لا تملك سوى 5% من المخزون العالمي المثبت من النفط، فلا يمكن الجزم باستمرار دورها الريادي في أسواق النفط لأكثر من ثلاثين سنة. أما إنتاجها من الغاز الطبيعي، فقد أشارت التقارير الصادرة حديثاً من وزارة الصناعة والطاقة الروسية أن حقولها الحالية للغاز في طريقها للنفاد، وإذا ما استمر معدل الانخفاض الحالي فلن تستطيع الوفاء باحتياجها المحلي بحلول عام 2010م.
ومن الجدير ذكره هنا أن شركة غاز بروم Gasprom التي تحتكر الغاز الطبيعي الروسي لم تفتح حقلاً جديداً للغاز الطبيعي منذ عام 1991م، بل كانت - وما زالت - تعتمد على الغاز الذي تحصل عليه من آسيا الوسطى بثمن بخس، وذلك من أجل الوفاء بالتزاماتها التصديرية الهائلة التي تتقاضى عليها سعر السوق كاملاً فتجني أرباحاً وفيرة، ولكن موسكو - الآن - في مأزق لأن الدول التي تعتمد على إمداداتها الغازية مثل: (تركمستان، وأوزباكستان، وكازاخستان) قد بدأت - فعلاً - بعقد صفقات جديدة مع دول منافسة كبرى مثل الصين؛ وبالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالإمدادات فإننا نجد أن تطوير خطوط الأنابيب لتصدير صادراتها النفطية هو من أهم التحديات التي تواجهها روسيا، وهذا ما دعا موسكو في الصيف الماضي لاستخدام القوة للسيطرة على جورجيا، فعلى الرغم من أن جورجيا ليست دولة مصدرة كبرى للنفط أوالغاز، إلا أن موقعها الجغرافي إستراتيجي من الدرجة الأولى لأنه يمثّل حلقة وصل مهمة لنقل النفط الروسي لأوروبا.
وهكذا فقد أصبحت حكومة روسيا تقدّم الكثير من التسهيلات للشركات الأجنبية بغية تشجيع الاستثمار في قطاع الطاقة الروسي، ولكن ما زال الكثير يتخوّف من الفساد الإداري وعدم الاستقرار التشريعي والسياسي في روسيا لا سيما في ظل استفزازها المتكرر للغرب، وكردة فعل لأفعال روسيا الأخيرة لم تلبث أن تعالت النداءات في الغرب بضرورة زيادة تعطيل الأمل الروسي للانضمام لمنظمة التجارة العالمية، لكن السؤال الذي يبقى بحاجة إلى إجابة: هل ستستمر هذه المماطلات ضد روسيا في ظل المخاوف الغربية عامة - والأوروبية خاصة - من إمكانية استخدام روسيا للطاقة كسلاح سياسي تستطيع أن تشهره متى أرادت لتحقيق أهدافها الإستراتيجية؟
إن ما قام به (فلاديمير بوتن) رئيس الوزراء الروسي حالياً يشبه إلى حد كبير ما قام به (نيكيتا خوروتشوف) رئيس مجلس السوفييت الأعلى عندما حاول استخدام ورقة الأسلحة النووية في الحرب الباردة قبل قرابة نصف قرن، وذلك لأن بوتن عمل وما زال يعمل حثيثاً على تسخير موارد الطاقة الروسية لتعزيز مكانة روسيا في أسواق الطاقة والمجتمع الدولي. لذلك نستطيع القول بأن روسيا قد تنجح في استرداد قوة سياسية مرموقة على المدى القصير، أما إذا أرادت أن تستمر كذلك على المدى البعيد، فهل ستعمل على كبح جماح ازدهارها وتقدمها الصناعي؟ فاستهلاكها القومي المتزايد للطاقة بات يتبوأ المرتبة الثالثة عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، أما إذا استمر اعتماد النفوذ السياسي والاقتصادي لروسيا على تبديد ثرواتهم الطبيعية المتضائلة، فحالهم قريباً سيكون أقرب للمثل الذي يقول: (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع).
* جامعة مانشستر
AlSaleh.Yasser@gmail.com