تأتي قضية الإرهاب الداخلي على رأس جداول الأعمال الأمنية في مختلف أنحاء أوروبا تقريباً. والحقيقة أن الأمر يتطلب قيام الحكومات بمراجعة صلات الإرهاب الداخلي بالجماعات الإسلامية المتطرفة الدولية وإعادة النظر في كيفية الرد عليه.
أن التعاون الأمني الدولي ومراقبة الحدود وقطاع النقل من العناصر التي تشكل أهمية كبيرة، بيد أنها لا تذهب إلى المدى المطلوب، إذ يتعيّن على الحكومات أيضاً أن ترصد النزعات الراديكالية داخل الجاليات المسلمة في أوروبا وأن تضع الإستراتيجيات القادرة على التصدي لهذه النزعات. وينبغي أن يتلخص الهدف الضيق المحدد في وأد الإرهاب في مهده، بينما يمتد الهدف الأعرض إلى فتح أبواب الحوار مع الجاليات المسلمة.
تؤكد هذه الأجندة على التواصل بين الثقافات باعتباره الوسيلة المثلى لكسر الأحكام المسبقة المتحيزة والصور النمطية السلبية على كل من الجانبين. ومن منظور السياسة الأمنية، فإن المقصود من التواصل بين الثقافات يتلخص في تحصين تلك القطاعات من الجاليات المسلمة التي يمكن اعتبارها متلقية محتملة للدعاية المتطرفة، بهدف منع تحويلهم إلى متطرفين وتجنيدهم كجهاديين.
ولكن لكي ينجح هذا النوع من التحصين فمن الأهمية بمكان أن نستوضح أولاً العوامل التي قد تؤدي إلى تحول شخص ما إلى جهادي. يبدو أن الإجابات على هذا التساؤل متعددة، ولكن النمط المشترك الذي يبرز في هذه الإجابات هو أن الرسالة الجهادية تَعِد بالمغزى والهوية، وعلى هذا فإنها تبدو جذابة، وبخاصة في نظر هؤلاء الأشخاص غير الواثقين من هويتهم والذين لا يعرفون لأنفسهم وجهة محددة.
في العام الماضي عكفت دراسة للمسلمين الألمان على تحليل عملية الاندماج الاجتماعي (بما في ذلك العقبات)، والدين، والمواقف من الديمقراطية، وحكم القانون، والدوافع السياسية للعنف. وكانت الغالبية العظمى من المجيبين على الأسئلة التي طرحتها الدراسة من أصول مهاجرة، وكان ربعهم من المسلمين الذين عاشت أسرهم في ألمانيا لجيل أو أكثر. ومن حيث الأصل العرقي والممارسات الدينية، فقد شكل هؤلاء الأشخاص عينة تمثيلية للجالية المسلمة في ألمانيا.
قدَّمَت الدراسة نظرة ثاقبة قيمة للإرهاب الداخلي، حيث كشفت عن صلة وثيقة ثابتة بين التطرف والتجارب (غير المباشرة) من التهميش والتمييز. وكان العامل الحاسم هنا يتلخص في المشاعر القوية المتولدة عن التدخلات العسكرية تحت قيادة الولايات المتحدة في البلدان الإسلامية، وعن وضع الفلسطينيين. كما كشفت الدراسة عن استياء المسلمين البالغ إزاء الاشتباه المستتر الواسع النطاق في كل مسلم في أعقاب وقوع أي هجمة إرهابية.
بيد أن الدراسة لم تكشف عن ارتباط تلقائي بين المشاعر الإسلامية المتعاطفة والتسامح مع استخدام العنف أو التجاوز عنه. ففي حين أن الأفراد الذين أبدوا تعاطفاً إسلامياً وتسامحاً مع استخدام العنف هم الأكثر عُرضة من غيرهم للانخراط في الإرهاب الداخلي، إلا أن 1.1% فقط من المسلمين الألمان يندرجون تحت هذه الفئة. كما لاحظ القائمون على الدراسة أن الآليات التي قد يتحول المسلمون بفعلها إلى إرهابيين محتملين هي نفس الآليات التي تجعل المراهقين الألمان عُرضة للوقوع بين براثن الدعاية الكارهة للأجانب والتطرف اليميني.
ورغم أن الاستنتاجات التي توصلت إليها الدراسة تنطبق على ألمانيا فقط، إلا أن نتائجها الرئيسية جاءت متطابقة تقريباً مع دراسة استقصائية قامت بها مؤسسة غالوب العالمية. فقد أكّدت مؤسسة غالوب أن 7% فقط من المسلمين يميلون إلى التطرف السياسي والتسامح مع استخدام العنف، وأن دوافعهم إلى ذلك ليست دينية بقدر ما هي مستمدة من المعاملة السياسية والاجتماعية المهينة التي يلقاها المسلمون ويعانون منها.
وهذا يتناقض بوضوح مع وجهة النظر التقليدية في الغرب والتي ترى أن الوازع الديني هو الدافع الرئيسي وراء الإرهاب الإسلامي. ويرى العديد من المسلمين في هذا الافتراض المغلوط دليلاً على ازدراء الغرب للإسلام، وهو ما يعزز وجهة نظرهم بأن المسلمين ككل ضحايا للتمييز، ويؤدي بالتالي إلى خلق حلقة مفرغة تعمل على توليد المزيد من التطرف على الجانبين.
الحقيقة أن جوانب معينة من بيئة البلد المضيف قد تساهم في خلق التطرف. وفي حين أن عوامل خارجية تلعب أيضاً دوراً رئيسياً فإن مواقف المسلمين تجاه البلد المضيف تتأثر بشدة بفكرة تعرض المسلمين للمذلة والقهر. وهذا من شأنه أن يتعزّز بفعل أي خبرة سلبية قد يتعرض لها المسلمون أنفسهم.
وأخيراً هناك مسألة الكم، إذ إن العدد الحقيقي للمجندين المحتملين لقضية الإرهاب لا يمكن إلا أن يكون تقديرياً، ولكنه يتوافق على نحو أو آخر مع النسبة المئوية من السكان الذين من المرجح أن يتورطوا في جرائم عنف في أي مجتمع غربي. وعلى هذا فليس من الممكن أن يرقى مجموع هؤلاء الأشخاص إلى التصنيف كظاهرة ضخمة. ولكن باعتبارهم شخوصاً أساسيين في هذه الشبكة المعقدة من التفاعل بين المسلمين والعوالم الغربية، فهم ينظرون إلى الإرهاب المسلح باعتباره الخيار المفضّل لديهم.
هناك بطبيعة الحال أشكال أخرى من التفاعل، وهذا يعيدنا إلى مسألة كيفية التعامل مع الإرهاب الداخلي. كثيراً ما ينشأ التمييز بين الأدوات (الصارمة) في مكافحة الإرهاب - وهي الأدوات التنفيذية، بما في ذلك التدابير العسكرية - والأدوات (الناعمة) مثل برامج تعزيز إدماج المهاجرين المسلمين، والجهود الرامية إلى ترسيخ الاستقرار والتنمية في البلدان التي تعتبر المنشأ لهذه المشكلة، فضلاً عن إستراتيجيات الحوار بين الثقافات.
الحقيقة أن شعار (الحرب من أجل عقول وقلوب المسلمين) يتسم بقدر كبير من الغرابة، إلا أنه يكشف عن محاولة للربط بين هاتين المجموعتين من الأدوات. فحتى رغم أن المقصود من هذه الواجهة البينية هو إبلاغ رسالة سياسية، إلا أنها تستخدم تعبير الحرب. وإن كنا سنتبنى اللغة التي يستخدمها تنظيم القاعدة بينما نعلن في نفس الوقت عن نيتنا في التواصل مع العالم الإسلامي بأسره، فإننا بهذا نعمل على تعزيز رسالة القاعدة. ويبدو أن (تنافس الأفكار) أصبح محصوراً في الأجندة الجهادية التي يفرضها تنظيم القاعدة. ولا شك أن مثل هذه الاستجابة لن تنجح في تغيير عقلية المجندين المحتملين.
إن الميل السائد اليوم للنظر إلى المظالم التي يتعرض لها المسلمون من منظور ذي بعد واحد من شأنه أن يتدنى بالخطاب السياسي إلى مستوى غاية في التبسيط. والحقيقة أن تفاعلاتنا مع المسلمين قد تتأثر على نحو غير واعٍ بردة الفعل التلقائية الدفاعية هذه، وهو ما من شأنه أن يشجعهم على اتخاذ مواقف دفاعية بنفس القدر.
بوسو فون ألفينشليبن مفوض القضايا العالمية (منع الأزمات المدنية، وحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، والإرهاب الدولي) لدى وزارة الخارجية الألمانية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - عالم أوروبا، 2008م.
www.project-syndicate.org
www.europesworld.org
خاص بـ(الجزيرة)