تبددت كل المخاوف التي اعترت طفلاً لم يبلغ الثالثة من العمر. وهو ينتظر أمه على أحد كراسي الانتظار بصالة أحد المراكز الطبية .. بسبب تسمر نظرات بعض النسوة نحوه..، واقتراب أطفالهن منه ينظرون إليه بتعجب..، فساعة يقتربون منه وساعة يفرون،.. وكأنه كائن غريب..!!، هذا الطفل والذي لمحته بسرعة،.. ذا وجه شاحب، وعيون مسبلة غائرة، وملامح كادحة وشعر طويل، وجسد منهك، وأجزاء من جسده الصغير، قد ظهرت من تحت قميصه لتضخمها..
ويبدو أن لديه مرضاً ما أو إعاقة تظهر للمتأمل من أول وهلة..، لكن المشكلة العظمى والآفة الكبرى ليست في حالته فهذا خلق الله والمؤمن مبتلى والصابرون جزاؤهم الجنة بل المشكلة في نظرات الناس له والتصرفات البلهاء التي تحدث أمامه وقد يعرف مغزاها فهو بشر يحس ويشعر كما نشعر، لقد ساءه وأشعره بالخوف.. ما لقيه من تعامل في تلك اللحظات القليلة التي جلسها ينتظر أمه.. فلم يرحب به أحد .. ولم يمد يده له أحد .. ولم يبتسم في وجه وقتها أي أحد .. مما أشعره بأنه غريب بين الناس، وعلى قدر الوحشة التي شعر بها، فلقد وهبه الله نعمة عظيمة ومتعة كبرى استغنى بها عن عاطفة وتقدير كل الحاضرين، والحاضرات، فها هي أمراه قد قدمت نحوه متشحة بالسواد وكأنه البياض والنور شعشع في عينية، ولف عمره، لقد عرفها رغم صغر سنه، وقلة حيلته وهوانه على الناس، فتلكما العينان البريئتان الناعستان انتعشتا، والوجه البائس أصفر، وانتفض حاجباه فجأة عندما لمحها فقط قد أقبلت لتنتشله ثم رفع يديه المتدلية إلى أعلى شيء يطيقه، في منظر إنساني مهيب لتضمه تلك الحنون ويحيطها بذراعيه بقوة فتقبله بحب وتحمله بشوق ثم ألقى برأسه على كتفها، وبهمه على صدرها، وكأنه قد حيزت له الدنيا، ثم رمق الحاضرين بنظرة ذات معنى عظيم، وكأنه يريد أن يقول: الله يغني عنكم، هناك من يفتخر بي، ويحقق ذاتي..، ويقدرني.. وفي هذا فلنتأمل كثيرا..!!، ولنكن كلنا أمهات وآباء له ولأمثاله ولنغرس في أبنائنا ثقافة شكر النعمة والحب والتقدير لكل شخص ولو كان من الفئات الخاصة، فالغريب غريب الطباع السيئة لا الخلقة والراحمون يرحمهم الرحمن...