قالتها زوجتي وهي تسكب الدموع على رحيل خالها المحبوب المعروف بين أهله وفي قريته بلقب (الدهلاوي) الذي وافاه الأجل يوم الأحد 26-10-1429هـ بعد أن عاش قرابة المائة عام، كان خلالها مثالاً يحتذى في مكارم الأخلاق وحب الناس والوطن، كيف لا وقد كان من رجال الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - الذين شاركوا في معارك التوحيد لهذا الكيان في شمال المملكة مع الملك سعود وفي جنوبها مع الملك فيصل - رحمهم الله جميعاً - فحق لزوجتي ولنا جميعاً أن نبكي رجلاً عظيماً كرس حياته في خدمة مجتمعه وأهله.
ولا أنسى أن زوجتي كانت تحدثني منذ بدء زواجنا عن خالها الدهلاوي بلا كلل ولا ملل وتستمتع وهي تتغنى باسمه وتفتخر به وهي تُشيد بتعامله وأخلاقه، وتزهو وهي تتذكر سنوات الطفولة معه، مما جعلني أتشوق لرؤية هذا الشيخ فذهبت لزيارته معها في شهر رمضان المبارك من عام 1425هـ وكان أول لقاء لي معه - رحمه الله - وكنت أظن أن في مديح زوجتي كثيراً من المبالغة ولكنني وبعد أن رأيته وجلست معه عرفت سر حبها له.
دخلت تلك المدينة الصغيرة (ثرمداء) وعند باب أحد المنازل أبصرت شيخاً طاعناً في السن وضريراً عرفت من محياه الجميل ودون أن يخبرني أحد أنه (الدهلاوي)، وبعد أن اقتربنا منه ألقيت التحية فبادر بالرد ودعاني للدخول قبل أن يعرفني وفور دخولي عجبت من ذلك المنزل المتواضع جداً، فهو بيت من دور واحد مبني على الطراز القديم لا يوجد فيه أي شيء ينبئ بالراحة ويشجع على الجلوس، والعجيب أنني عندما جلست أحسست براحة وأنس ما كنت أحسست بمثلهما في أي منزل آخر، وعندما عرفنا رحب بنا كثيراً وبارك لنا زواجنا ودعا لنا وما زحنا - رحمه الله - حيث قال: (كان بودي أن أقدم لكم شيئا ولكن عذر البخيل الصوم) وحاشا لله أن يكون بخيلا بل هو من أكرم الرجال وأنبلهم وقد حدثني - رحمه الله - أنه فقد بصره وهو في سن الـ(35) عاماً فصبر واحتسب فحق له أن ينال - إن شاء الله - الجنة التي بشر بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كأجر لمن ابتلاه الله بفقد حبيبتيه (يعني عينيه) أو إحداهما فصبر، ومن نعم الله على هذا الشيخ أيضاً أنه حفظ القرآن في سن مبكرة ولم يزل يتعاهده بالحفظ حتى مات - رحمه الله - وكان يفرح بمن يزوره ويلتمس العذر لمن شغلته حياته عن التواصل معه، فلا يلوم أحداً ولا يعنت ويسأل عن المريض من أقاربهن وعن المسافر وعن المتخرج، حتى أنه في مرضه الذي مات فيه كان إذا خف عليه الوجع ووعى من حول يسأل عن أقاربه جميعاً وعن مشكلاتهم دلالة على أنه كان يفكر فيهم حتى في مرضه - رحمه الله - بل انه - رحمه الله - على الرغم من كبر سنه ومرضه يتكبد مشقة السفر ويتعاهد صلة أقاربه في الرياض كل سنة ليطمئن على أحوالهم وعلى أبنائهم، وعلى الرغم من حاجته - رحمه الله - إلا أنه كان أبيَّ النفس لا يمد يده ولا حتى إلى أقربائه ولا يرضى بأن يتصدق عليه أحد، وكان يقوم بخدمة نفسه ولم يسمح لأحد بمساعدته في قضاء أموره، وقد آثر أن يأكل من عمل يده حيث امتهن بأجل المهن وهي التجارة التي وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من امتهنها وراعى الله فيها بأن يكون رفيقه في الجنة فقد كان - رحمه الله - تاجراً في الأواني المنزلية، وكان يهدي زوجتي الكثير من هذه الأواني لقربها إلى قلبه.
كان - رحمه الله - لا يطلب الشفاء إلا من الله فلا يذهب إلى طبيب ولا إلى راقٍ، وحاولت معه أنا شخصياً عدة مرات لكي يعرض نفسه على طبيب حيث كان يشعر في آخر أيامه بإجهاد كبير وصعوبة في التنفس وضعف في عضلة القلب، وكلما حاولت معه قال لي ألا تقرأ قول الله عن سيدنا إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}فالشفاء بيد الله، وكان يسأل الله أن يكون من السبعين ألفا الذي يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ممن أخبر عنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
وعلى الرغم من أن السنوات كانت قد سلبت السنوات من الشيخ الدهلاوي صحته ونضارته، حيث بدا في آخر عمره نحيل الجسم ضعيف البنية مريضا، إلا أنها لم تأخذ شيئا من إيمانه وثقته بربه وصفاء سريرته وإشراقه محياه ونبل أخلاقه ومحبته لأقاربه وأهل بلدته، كما أنها لم تأخذ من ذاكرته فقد أنعم الله عليه بذاكرة قوية ظل يتمتع بها إلى أن توفي - رحمه الله - فيتذكر أدق التفاصيل وبالتواريخ. ومن القصص العجيبة التي شهدتها أنه قبل أربع سنوات في شهر رمضان المبارك وفي ليلة الثلاثين أخبرنا بأن يوم غد سيكون اول أيام العيد - إن شاء الله - ما لم يكن هناك سحب تحجب رؤية الهلال ويكاد يجمع الناس في تلك السنة على أن يوم غد المكمل للثلاثين من شهر رمضان وبالفعل كذب ظن الناس وصدق الدهلاوي، وعندما سئل كيف عرفت ذلك قال انه حسبها بمنازل القمر فقد كان قبل عشر سنوات مثل منزله الآن وكان شهر رمضان في تلك السنة لم يكتمل.
عزاؤنا فيك يا شيخ ثرمداء أنك ذهبت إلى رب كريم هو أعلم بك منا وأرحم عليك من أقرب أقربائك وسيهبك بفضله ومنته داراً خير من دارك وسيعوضك عن كل ما حرمت به في هذا الدار الفانية من الزوجات والأبناء، فأشهد كما يشهد أهل ثرمداء وكل من عرفك بأنك ابتغيت تجارة لن تبور بمتاع الدنيا الزائل. وأخص بالعزاء في هذا المصاب الجلل زوجتي (أم رتاج) ووالدها الفاضل الذي أسأل الله أن يحسن إليه كما أعظم إحسانه لهذا الرجل وأن يجد صنيعه صلاحاً وتوفيقاً لأبنائه وبناته إنه سميع مجيب.
- وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف