كل شيء بالعالم يتم تصحيحه، فالأزمة المالية التي تحوّلت إلى أزمة اقتصادية أدخلت الدول الكبرى بركود وكساد وفرضت إعادة توزيع الخارطة الاستثمارية دولياً، فحجم الأموال التي تنقلت خلال الفترة السابقة منذ ظهور الأزمة على السطح كبيرة جداً، وحاولت خلال رحلة الانتقال من أسواق المال إلى أسواق السلع خلق فوضى القرارات حتى تتمكن من تعتيم الصورة أمام التابعين لها وتعليقهم بمراكز لا يستطيعون الخروج منها أبداً إلا بخسائر فادحة، ثم جاءت الصدمة بالربع الحالي لتظهر الصورة القاتمة التي كانت ترسم لوجه الاقتصاد العالمي، حيث يعيش أسوأ مراحله على الإطلاق فإفلاس هنا وانهيار هناك وتسابق لإيجاد الحلول التي لن تؤدي إلا التغيير بخارطة مراكز القوى على المدى المتوسط والبعيد، ولكن ما علاقة هذه المبالغات الكبيرة بسقوط أسواق منطقة الخليج وخصوصاً السعودية بذلك. إن الجواب على هذا السؤال يتعلق بإعادة توزيع خارطة الاستثمارات بالعالم، فالتوجه أصبح واضحاً للدول التي ستحافظ على معدلات نمو جيدة قياساً بالوضع الدولي وهي التي تملك احتياطات مالية كبيرة تمكنها من تحريك عجلة النمو اعتماداً على الإنفاق الحكومي وتعويضاً للتراجع الذي سيحدثه انخفاض حجم التجارة الدولية، وعلى سبيل المثال ستتراجع معدلات النمو بمنطقتنا بسبب انخفاض أسعار البترول وانخفاض إيرادات تصدير المنتجات البتروكيماوية، وبالتالي جاءت خطة الحكومة لاستثمار 400 مليار دولار خلال خمس سنوات كتحفيز لإبقاء معدلات النمو عند مستويات جيدة، وتحقيق أهداف تنموية لا بد من الوصول لها خلال المرحلة القادمة، وبالتالي فإنّ حركة الأسواق المستقبلية لا بد أن تتبع مثل هذه التحركات سواء بمنطقتنا أو بشرق آسيا أو غيرها من الدول التي سيبقى لديها نمو، بينما الدول التي ستتراجع فيها معدلات النمو وتصحح من واقع أسواقها، كما نشاهد بأمريكا وأوروبا اليوم، سيكون الإقبال على الاستثمار بها مرهون بالتطورات المستقبلية، فلا تستطيع الاستثمار بشركات قد تفاجئ بإفلاسها أو بوضع قاتم لها قد يكلف الكثير، لذا فإنّ حركة أسواقنا السلبية ومحاولة تكريس الوضع البائس عالمياً على أسواقنا ما هو إلاّ لتخفيض تكلفة توزيع الاستثمارات، لأنّ هذا الوضع سيدوم لسنوات، وبالتالي فإن التمركز الاستثماري بهذه المرحلة يؤسس لسنوات قادمة، الأمر الذي يفسر لماذا كل هذا التركيع لأسعار الأسهم، فالقيمة السوقية للأسهم الحرة بالسوق السعودي لا تتعدى 350 مليار ريال حالياً، بعد أن كانت تفوق ضعف هذا الرقم، والأسهم الحرة بسابك لا تتخطى قيمتها 35 مليار ريال، بعد أن كانت قبل عام تفوق 120 مليار ريال، مما يجعل السيطرة على حركة السهم وحصة سابك بأي محفظة كبيرة مكلفة. بينما اليوم التكلفة انخفضت إلى الثلث وهذا يقاس على كل الشركات عموماً، وإذا ما استمر الذعر المفروض على عقلية المتداولين، فإن الأسعار قد تنخفض أكثر، فالجميع يعلم أن الهبوط لن يستمر إلى الأبد مثلما كان الحال عند الصعود، ومن يأتون اليوم بأموالهم الضخمة ليرتبوا مستقبل استثماراتهم لن يدخلوا لحركة سريعة بل لسنوات، إلى أن تتغير معالم الاقتصاد العالمي وتتضح الصورة تماماً وخلال هذه المرحلة سيستوطنون بمناطق النمو الأكثر أماناً.
رسم الخارطة الاستثمارية أصبح واقعاً والأموال التي خرجت بعد أن استمرت لعقود بالغرب لن تعود لهناك بسهولة أو بوقت قصير، ولكنها لن تبقى سائلة لأنها ستخسر أكثر، ولذلك فهي تعيد توزيع محطاتها من جديد والسوق السعودي أحد أهم هذه الخيارات المستقبلية، ولكن دائماً ما تتمركز هذه الأموال بأسعار منخفضة وبهامش مخاطرة محدود جدا، وما يحدث من تسييل لمحافظ مستثمرين محليين من خلال الضغط المخطط له جيداً، ما هو إلا طريقة سريعة ومنخفضة التكلفة للاستحواذ على المراكز المطلوبة، والضحية دائماً الشريحة الكبرى من المتداولين الذين تنقصهم المعلومة والخبرة، فيساهموا بتقوية المراكز للمحافظ الكبيرة من خلال البيع العشوائي والمساهمة بتقليل المدة الزمنية المطلوبة لبناء المراكز والأيام كفيلة بإثبات ذلك، لأن التاريخ يعيد نفسه في عالم أسواق المال.