من المفروغ من نقاشه، أن خفوت الوعي بالامتدادات المقاصدية للشريعة، وعدم التمكن من استشعارها سواء من حيث ملامحها المباشرة البادية للعيان أو من حيث آفاقها الغامضة التي يشترط لمعاينتها كبير قدر من التمعن، شأن لا ينجم جراءة -
في متباين الأحوال- سوى ضرب من القراءة الموغلة في السلب -والتي تفرض نفسها كمأساة لا تفتأ تعيد إنتاج ذاتها وعلى نحو متواصل- كنتيجة حتمية لافتقارها للترشيد الإيجابي، وهذا ما نراه وفي أشد حالات التجلي عند خطاب التكفير، حيث الإخفاق النوعي في إدراك مقاصد الشارع ليس حالة محصورة في هامش هذا الخطاب بل هي -إذا ما جرى الأخذ في عين الاعتبار كافة الأداء- غائرة في بنية سياقه العام، فهو لا يدرك الحضور المركزي للأفق المقاصدي، ويغيب عن ذهنيته أن العقل الإسلامي الذي باشر الوحي صياغته إنما هو عقل غائي تعليلي مقاصدي استنتاجي استقرائي، عقل يعي أنه ليس ثمة شيء في الوجود فضلاً عن أحكام الشريعة وتفاصيل الحياة إلا وثمة علة تتبلور خلفه فلا مكان للعشوائية في هذا الملكوت الكوني؛ إن التشريع في متباين أحواله له أبعاد مقاصدية ملحوظة للشارع وأسرار غائية جرى بموجبها صياغة الأحكام التكليفية وشرعنة موقعتها كضرب من السلوك التطبيقي العام، ومن هذا المنطلق فثمة حاجة قصوى لفقه الأفق المقاصدي ذلك أن المشرِّع قصد من المشرَّع له أن تتناغم مقاصده في العمل مع قصد الشارع في التشريع لأن الشريعة بمتباين مفرداتها جرى موضعتها توخياً لما يترتب عليها من متتاليات تكمن فيها مصالح البشر الذين يحظر عليهم مباينة مقاصد الشارع الذي أوجد الأناسي ليشرعوا في التلبس بالنشاط التعبدي في كافة قوالبه (وكل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل... فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة) انظر (الموافقات) (2-333) العقل التكفيري يعاني في أطروحاته الفكرية من انحسار للنفوذ المقاصدي فهو الغائب الأكبر عن سياقات القراءة التكفيرية، التي تم وضع ذاتها بحسبها التمظهر الأبرز للحراك التصحيحي!، مع أنها لا تحوي في بنيتها اتساقها وانسجامها المنطقي؛ إن ضآلة فقه المقاصد لدى هذا الوعي أفضى إلى فوضوية تحليلية أوقعته في مأزق معرفي مما حدا به إلى أن يبني رؤيته في المصالح والمفاسد على مجرد الأهواء الذاتية فقال على الله بسوى فقه فصادم قسمات هوية الأمة الرئيسية، وقوض من حيث يروم التشييد! وبات رقماً فاعلاً في السلب وأدى أدواراً خطيرة - ضاعف من مدى خطورتها أنها قائمة على سلوك ممنهج يركز على إخفاء أبعاده وخلفياته - فشق وحدة الصف وتمرد على مقام العلماء الراسخين في العلم وجيّش عواطف الشريحة الشبابية مما كان له أبلغ الأثر السيئ في تمزيق حالة السكون التي ينعم بها النسيج الاجتماعي وبتنا نعاين حالات من التمظهرات المقوضة للمنحى الأمني وكلها مسبَّبات عن هذا الطرح الوالغ في التكفير بفعل جهله التام بمقاصد الشارع وكليات التشريع وجزئياته، حيث تجد الواحد منهم كما يؤكد صاحب الموافقات (آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روي عنهم في فهمها ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعمال نتيجة الطلب)، انظر (الموافقات) (4-174-175) إن الوعي التكفيري عندما جهل علم المقاصد وقام بمصادرتها ونفيها خارج المعادلة القرائية ارتطم على وجهه في مستنقع التشدد فحرم الحلال ورفع الحلال المستحب إلى درجة الواجب الملزم وفرض على نفسه وعلى غيره فروضاً ما أنزل الله بها من سلطان وباتت دائرة المحظور عنده أوسع الدوائر في الإسلام فصار الحرام هو الأصل، وأما الحلال فليس له ذكر إلا في السياق الاستثنائي؛ لقدر سموا صوراً ذهنية منفرة للإسلام وأنه نموذج ثوري يعلي من شأن التشدد والغلو والتطرف والانغلاق، وظهرت ضروب من حالات (الإسلامولوجيا) الذي يستخدم التعاليم الإسلامية السمحة بالضد منها بشكل يظهرها رمزاً للتعصب الأعمى وعدم التسامح، مما تسبب بالمقابل في تجلي حالات من (الإسلاموفوبيا)، الأمر الذي آل إلى حضور قاتم لمفردة الإسلام فهي في منظور الآخر لم تُدرك على وجهها الكيفي الصحيح، بل فُرغت من محتواها الأصلي، وحقنت بدلالات أجنبية عنها، وشحنت بمفاهيم سلبية جداً، وبات الآخر يرى أن العنف جزء من بنية الخطاب التشريعي للإسلام، هذه الصورة المقززة التي لا تعكس حقيقة هذا الدين ابتهج المناوؤن جذلاً بها ونفخوا في هيكلها وطاروا بها في الآفاق وعمموها في أرجاء المعمورة إشباعاً لرغبة دفينة في تشويه الإسلام وإلباسه لباساً غريباً عنه، وإبرازه بوصفه قتامة لتنفض عنه الجموع وتتجافاه العقول ويتقزز منه الوجدان البشري العام.
هذه هي النتيجة المتمخضة عن هذا الفكر الذي باشر بتّ الارتباط المعرفي بالفقه المقاصدي، فاستحال إلى خطاب ضد الحقيقة والتاريخ والإنسان. إن اصطفاء آلية التشدد وانتخابها كفلسفة حياة يراد لها التموضع الكلي والهيمنة الشمولية على مفاصل السلوك الجمعي شأن مناهض لمقاصد الشريعة ومصادر لأدبياتها المرتكزة على اليسر، والداعية إلى التيسير على الناس، ورفع الآصار والأغلال عنهم وهذا من بواعث بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والطرح القرآني كثيراً ما يلح على هذا المقصد -مقصد اللين والتيسير- باعتباره واحداً من أبرز مقاصد التشريع. فالله -جل في علاه- ما جعل {عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وهوسبحانه يريد {بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وهو أيضاً {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. إن التشدد عندما يرد ذكره في نصوص الشريعة فإنما يراد به المقابلة (فطرف التشديد- وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين) انظر (الموافقات): (2- 167) إن الطرح التكفيري في نسيجه الرؤيوي، وحمولته المضمونية لا ينهض على أدنى اعتبار لرتب المصالح والمفاسد، فهو يتعاطى مع الظواهر والأشياء عبر منظور جزئي، ولا يعاين الصورة من خلال أجزائها المتكاملة ومن متباين زواياها، إنه لا يتعاطى إلا مع المعطيات الشكلية والقريبة بعيداً عن تعقيداتها وتفريعاتها، وبعيداً عن شبكة الأبعاد العلائقية التي تربطها بسواها مما يجعله يفتقر إلى الدقة والصوابية والعمق؛ إن الشريعة قامت في ضمن ما قامت عليه على جلب المصالح ودرء المفاسد كما يقول (العزبن عبدالسلام): (معظم مقاصد القرآن: الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها) انظر (قواعد الأحكام): (1-8) الخطاب التكفيري لا يتمتع بمقدرة قرائية عالية لتقاسيم الواقع، ومنطق تحولاته، وليس لديه بعد نظر لمعاينة الزمن في منحاه الماورائي، فهو يفتقر وعلى نحو متناه للاستشرافات النبوئية للمستقبل، وتستغرقه اللحظة الحاضرة والنظر الآني مما يفوت عليه التطلع إلى معاينة مآلات الأشياء وامتداداتها اللاحقة وعواقبها المصيرية ومن المعروف أن الفعل في كثير من الأحيان يكون فيه مصلحة آنية جلية تدرك بأدنى سوية من الفعل التأملي ولكن-وهذا هو الأهم- قد يتلوها إفرازات تفضي إلى مفسدة أعظم وهنا لابد من ارتكاب أدنى المفسدتين للسلامة من أعلاهما وإهدار إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما وبذلك يتحقق المقصد الأهم وهو تقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
وتأمل عزيزي القارئ هذا الكلام الثمين ل(ابن تيمية)حيث يقول: (لا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقلبها بحسب الإمكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شرّ الشرين إذا لم يندفعا جميعاً) انظر (الفتاوى): (23-343) إن انحسار القدرة المفهومية، وانخفاض سوية فقه الأولويات، وتدني مستوى وعي الموازنة بين المصالح والمفاسد لدى خطاب التكفير كان له ارتداداته العكسية التي تجلت في طبيعة تعاطيه المضطرب مع الراهن المتعين، وشواهد الحال تنطق بسلبية المتتاليات الناجمة كإفراز لهذا الخطاب الذي طفحت تداعياته البشعة على السطح، ولو لم يكن من آثاره إلا خلخلة الأمن، ودكدكة اللحمة الاجتماعية لكفى إذ يصطاد في الماء العكر كل من رام التقويض، بل وهناك من سيهتبل هذه الفرصة السانحة لشن حملة هجومية مكثفة على الإسلام تحت شعار منازلة المنشقين على أسسه!؛ إن تمادي العقل التكفيري في الترويج لخياراته، وإذاعة استراتيجيته التصعيدية، والتسويق لمضامينه الصدامية، مؤذن بفتنة بدأت ملامح نذرها بالتشكل، وتجلت بوادرها في الأفق، الأمر الذي يحتم علينا مقارعة هذا الفكر الذي ذبل في حسه فقه المقاصد، والعمل على عزله عن الوعي العام، وتقزيم حضوره الاجتماعي، وبعث ثقافة منفتحة تمد جسور التواصل مع الآخر وتنمي أنهار المعرفة بتغذيتها بفكر حر متجدد، مع ضرورة إيقاظ العقل التكفيري، وإعادة بلورة أرضيته المعتقدية، وتغذيته بمفاهيم حضارية، ليرى خلاف ما اعتاد أن يرى، وليفكر بعكس ما ألف أن يفكر، وليفارق من ثم نمطية الرؤية، وبدائية التفكير، وبساطة العفوية اللاهية المتأصلة في وجدان معتنقيه!.
Abdalla_2015@hotmail.com