الصديق العزيز.. عبد الله الجفري.. تحية الشوق وبعد:
هاتفتك وأنت في مدينة الضباب (لندن) خلال رحلتك العلاجية فيها قبل أكثر من عام للاطمئنان عليك، فقلت لك: ستشرق شمس فكرك في المدينة التي لا شمس فيها، وستعود للوطن الذي هو ونحن بانتظارك بإذن الله لأنك الأقوى والأبقى، وضحكت بالرغم من ثقل ألمك ووعدتني أن تعود.
هاتفت وجدي لأطمئن على حالك وكان صوته مطمئناً، فعولت على الأمل بالله بعودتك سالماً.. وعدتَ وعاد حرفك، وعدنا لواحة الأمل من جديد نُشرع الفكرَ لظلالك.. وللرحلة مع قلمك العذب.
هاتفتك بعد عودتك للوطن أهنئك بنصرك على ضعف نبضك.. وقدرتك على الانتصار على كبوات هذا القلب المرهف المتعب المثقل بهموم أديب ومواطن عربي.
حمل الفضاء الالكتروني حروف رسالتك مليئة بالحياة ومنتشية بها، ثم مقالاتك في عكاظ عادت لسيرتها الأولى وعدنا لظلالك.. شرعنا في رحلة الحرف والكلمة في واحاتك هناك تارة، وفي رواياتك التي لم نكن لنمل تكرار قراءتها تارة أخرى.
جمعت بين الصحافة والأدب.. وتسلل الحرف سهلاً زلالاً إلى شغاف القلب، في وقت فقدت فيه كثير من الأعمدة في الصحف الكثير من الوهج والتشويق وحملت الكثير من البرود والرتابة.
كان ظمأنا يوغل بزماننا نحو الجفاف.. وكانت واحتك لنا المنجي والمفازة، كانت مهرة الكتابة تصهل بنا إلى واحاتك فتزهر في الخرافة وتومض داخلنا إشراقاتك.
لطالما منحنا حضورك كل ذاك الفرح.. وتلك البهجة بالحياة، رددت عباراتك الكثير من النساء اللاتي عجزن عن خلق مفردات أبلغ منها تتحدث عن أنوثتهن وعواطفهن، وكل إرهاصات الحياة التي مررن بها.
كذلك يقرأك الرجال الذين ينشدون في لغتك مساحات للحلم والحب.. فهل من السهولة والبساطة أن ترحل مباغتة عنا!.. تراك وجدت في الموت خلاصك!! فأين هو خلاصنا؟ في الألم والذكرى! آه ما أقسى هذه الحياة التي تسلم أحبتها أحضان الغياب..
صعب هو غيابك.. يحيلها إلى فراغ..
أيها الغائب الحاضر.. لا يمكننا أن ننساك أبداً لأنك في عمق ذاكرتنا، في ثقافتنا، أنت جزء من ذاكرة الوطن، لا يمكن للموت أن يغيبك لأنك حي كنبضنا.. في مسامات فكرنا، في أصالة ثقافتنا وتراثنا، وواحات الأدب والرواية والصحافة والقصة وفي هويتنا الأدبية.
نحن متورطون في حنيننا إليك، موجوعون بفراقك، نبحث عنك في زمان خرافي خارج نطاق زماننا اخترت أن تسكنه وتشرق منه.
هل حقاً أنك مت؟؟ الشعراء سيدي لا يموتون (ربما أنت شاعر لأنك كتبت النثر بموسيقى الشعر وروحه)، ألم يقل جان كوكتو لأصدقائه لا تبكوا فقط تظاهروا بالبكاء فالشعراء لا يموتون إنهم يتظاهرون بالموت فقط.
سأتظاهر بالبكاء إذاً لتهطل تلك الغيمة الضبابية من عيني فأعود أجس دربي إليك من جديد، وأقرأ تلك الأسطر التي ملئت بالحبر وبك.
قد أصبح هذا العيد الذي رحلت غرته موعداً للبكاء والذكرى، وقد لملمنا مظاهر البهجة لحين فرح قد لا يأتي بعدك أبداً.
يا صاحب الظل الطويل.. ما آخر ما قرأت وما كتبت وما حكيت وما حملت من الهموم؟
ما الفصول التي لم تنهها بعد.. ما المقالات التي بقيت في طيات أدراجك ولم تر النور.. ما آخر الكلام.. وآخر الظلال..
أقنع نفسي أنك هنا.. لكن جوالك لا يجيب.. وبريدي فارغ والحمامات بلا بشرى.. وبحر جدة مرفأ بلا حلم..
نكتب أحياناً لنشفى من أحزاننا، فإذا بنا نحترق بالكلمات.. تصبح الكتابة فعلاً شاقاً ومؤلماً حين نكتب لمن لا يمكنه قراءة ما نكتب له!
هل الكلمات تكفي لعزاء أحبتك؟ وجدي صديقك ورفيقك، زين والعنود نضال وعبير؟
أعانهم الله وألهمهم الصبر والسلوان وألهمنا.
سنشتاقك دوماً ونستقل مراكب الذكرى إلى ضفة عمر، ستنثرك حروفك على مقربة منا لتتشكل كقصيدة شعر، كناقوس يذكر بك. سنبكيك وكل حرف سكبته روحك سيبكيك، ألم تقل ذات رواية (الدمعة ليست مجرد نقطة، لكنها رؤية وبوح وراحة وربما جموح أحياناً إلى درجة الرفض) ربما نرفض أن نفقدك ونرفض رحيلك لذا سنبكي كثيراً.
سأكتب لك دوماً، وعندما انتهي سأرجو البحر الذي عشقت أن يسر لك بما حملته، ثم قبل أن يأتيك الموج به سألوح لك بكف القلب وأصدق أنك واقف هناك على الناصية في الجهة المقابلة تنتظر البحر.
شاعرة وإعلامية
www.maysoonabubaker.com