ما زلت أذكر رسالة وصلتني عبر البريد الإلكتروني، يصف فيها كاتبها فساد من جمعوا أموال الناس في المساهمات المتعثرة، سواء كانت مساهمات في شركات توظيف الأموال، والتي كانت منتشرة في أرجاء المملكة قبل سنوات قليلة، أو مساهمات عقارية. بعد أن اتخذ أصحاب تلك المساهمات الدين وسيلة لإقناع الناس، وبدت عليهم ملامح الصلاح والتقوى، مع قليل من خبرات متواضعة خلال سنوات قليلة من العمل في السوق المحلي، ورسم مشروعات وهمية على الورق، والترويج لسمعتهم التجارية بشتى الوسائل الدعائية، فانتهكوا حرمة المجتمع، واغتصبوا أحلام تنميته وتطويره.
أعود إلى نص الرسالة، حيث يقول كاتبها: (دعوني أيها القوم أستغل الفرصة، اسمحوا لي أن أتربص بكم مرة واحدة، وبجيوبكم مرات. دعوني أعلن عن مساهمة -أياً كانت هذه المساهمة- دون شروط واضحة. مرروا لي رغبتي الدفينة، لأنني لن أكررها، أعدكم بذلك ولا أعد جيوبكم. أعطوني أموالكم على أن أضاعفها، ولن أفعل سأمحقها، ولن تعرفوا لها طريقاً أو دالة. اغفروا لي وقاحتي في الطلب، وصراحتي في الهدف، سأطيل لكم ما تريدون، وأقصر لكم ما تريدون، ولكن أعطوني تحويشة العمر ولن تروا وجهي مرة أخرى. أعطوني أموالكم وبعد ذلك قاضوني، لا تسامحوني لأني لن أعيد شيئاً، سأنشر لكم إعلانات في كل الوسائل، وسأقول لكم ما تودون سماعه من وعود عرقوبية، سأكذب عليكم ليل نهار. أعطوني عقولكم دقائق وجيوبكم ثوان، وسأعطيكم الحسرة كل العمر، والندم بعرض الحياة وطولها).
قصة المساهمات المتعثرة أياً كانت راح ضحيتها آلاف الناس، لأنها اعتمدت على عوائد مغرية ومسلية، حينما كان الناس لا يزالون مهووسين بالمساهمات وأرباحها. إلا أن أحداً لا يعرف مصيرها بعد ذلك حينما تتعثر، ولا يعرف عن أصحابها ولا من هم خلف الكواليس من الذين خططوا لها شيئاً، ولا حتى عن الأموال التي جمعوها أين ذهبت. كل ذلك بسبب التخطيط الإجرامي، ودقة النصب والاحتيال على البسطاء من ذوي الدخل المحدود والأرامل والأيتام وغيرهم من شرائح المجتمع.
وعندما نقف على أمثال تلك القضايا، فإننا نقف على إحدى صور الفساد التجاري، لما تحويه من استغلال وتحقيق للمنافع الشخصية، أو الجماعية بشكل مناف للشرع والأنظمة الرسمية، سواء تم هذا الجرم بشكل فردي أو جماعي، ومن ذلك ما طالعتنا به على سبيل المثال - وزارة التجارة والصناعة- قبل أيام، حينما خاطبت إمارات المناطق في المملكة، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتصفية (34) مساهمة عقارية. أنهت المدد النظامية دون أي عمليات تطوير، أو إعادة حقوق المساهمين. وقد بلغ رأس المال المكتتب بها أكثر من مليار ونصف المليار ريال.
أعتقد أن دراسة الطرق التي سارت فيها المبالغ في أي مساهمة متعثرة مطلب مهم، من أجل الكشف عن أسرارها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، حتى تظهر أسماء الضالعين في إذابة تلك الأموال وإخفائها من أجل أن تعاد إلى أصحابها. لأنني على يقين أن الأموال هي في حوزة رجال يظنون أن الوصول إليهم يعد في غاية الصعوبة، وأن أخذها من أيديهم ضرب من المستحيل.
إن مقاصد الشريعة الإسلامية تقوم على العدالة، لأنها إن أقيمت على العدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم على العدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة. وهو ما أكده خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- في محافل عديدة، فقد بين -رعاه الله-: (إن العدل مطلب أساسي تقوم عليه الدول، ولا تقوم دولة على بغي وظلم، وإنما تحيا بالعدل الذي به تستقيم الحياة وتثبت الدعائم). لذا حرم الله -تعالى- الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً، ولم يجعل لإقامته سبيلاً، كما جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). ومن أبشع صور الظلم: أكل أموال الناس بالباطل، والاستيلاء عليها عن طريق تلك المساهمات الوهمية.
من جانب آخر، فإن مس هؤلاء شيء من العذاب هو هدي نبوي ولا شك، من أجل معالجة تلك القضايا الصعبة بأسرع وقت ممكن، والحد من انتشارها، وعدم السماح بالتوسع فيها، وحتى لا تتراكم تلك القضايا في المحاكم من دون وجود مؤشرات لنهاياتها، فتتعثر وتهمل. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، بجلد أحد الصحابة حينما أنكر أنه أخذ شيئاً من المال، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (المال وفير والعهد قريب). فلما مسوه شيئاً من العذاب أقر واعترف بأخذ المال.
أيها القراء، إن داع فأمنوا: اللهم اكفنا شر تلك المساهمات العبثية، وشر سماسرة الصفقات الوهمية الذين سرقوا أموال المسلمين وأودعوها خارج الأوطان في بنوك الشيطان. اللهم من عبثوا بأموال الناس فسرقوها، وقطعوا أرزاقهم فقذفوهم في أودية الإفلاس، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك. اللهم رد خسائر المسلمين، وانتقم من المجرمين، اللهم آمين.
drsasq@gmail.com