ظهور التشدد أو انتشاره لا يتوقف على سبب واحد، بل قد يرجع إلى أسباب نفسية واجتماعية وسلوكية وأخلاقية وعرقية، وقد تكون الحكومات مسؤولة بسبب عدم اكتراثها بالقضايا التي تهدد الشاب. ولا ينفرد بالتطرف شعب دون سواه، ولا طائفة من البشر دون غيرها، ولا أتباع دين بعينه كما تصور بعض أجهزة الإعلام الغربية حين اتهموا الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالإرهاب، بل لم يعرف التاريخ ثقافة واحدة خلت من أفراد زرعوا فيها ما يوقظ الصراع أو يشعله بسبب تطرفهم، بل وُجد التطرف في كل الشعوب، ومورس من قبل أفراد وجماعات من كل الديانات، ولم تكن لتشتعل الحروب الصليبية أو لم تكن كما كانت عليه من العنف لولا تطرف بطرس الناسك، وليس من المظنون أن تشتعل الحربان العالميتان الأولى والثانية لولا التطرف الشديد الذي تنطوي عليه الأفكار النازية والفاشية، وليس الخوارج في تاريخ المسلمين ولا تصرفات بعض الجماعات الإسلامية المسلحة إلا بعض التعبير والترجمة لذلك التطرف، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية المتطرفة في فلسطين وغير ذلك. ولو سأل سائل عن سبب طرق مثل هذا الموضوع مع أن التطرف وما يثمره من عنف وإرهاب موجود في كل الثقافات والمجتمعات، ولماذا نبحث له عن معالجة - في مجتمعنا الإسلامي- مع أنه فكر مشترك بين الشعوب. لكني أقول: إن الحاجة إلى معالجة هذا الأمر عند المسلمين أوجب، وإلحاحها أشد؛ ذلك لما عرض المسلمين له من ويلات، ولما تعرضوا بسببه من جنايات على كتاب ربهم، وعلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بل وعلى شخص نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، والغرب استغل ظاهرة التطرف الإسلامي لكي يطلق تعبيرات ومصطلحات مختلفة تجاه المسلمين ودينهم، وهذه التعبيرات هي جزء من محاولة إلصاق تهم التطرف والإرهاب والأصولية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم الغربي، لا سيما مصطلح الأصولية الذي شاع بشكل كبير في الوقت الحاضر بدلالته الغربية، فأخذ الكثرة بخطأ القلة وعمم شطط المشتط - وهو عدد قليل- على إحسان المعتدل البريء، ويضاف لذلك أنه قد قوبل العنف الذي حدث من قلة من الأفراد إلى عنف وتسويغ للعنف من قبل دول وحكومات.
والإسلام إنما جاء لسعادة البشرية وليس لشقائها وجاء ليبني لا ليهدم، وجاء ليجمع لا ليفرق، والإنسان يعيش حياته السلوكية وفق قناعاته التي استقرت في وجدانه ومشاعره، وهذا الوجدان إنما يبنى من خلال نمط المعرفة والعلوم التي تلقاها، وبالتالي فإن أي ظاهرة سلوكية أو تصرف عملي فإنما مبعثه فكرة تولدت في مشاعره، وهذه الفكرة يولدها النمط المعرفي الذي تلقاه في حياته. وهذه الحقيقة مستنبطة من قول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}(119) سورة محمد، وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله- فقال: (باب العلم قبل القول والعمل)، وجاء الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله- فأضاف إليها قوله: (فابدأ بالعلم قبل القول والعمل).
وإذا كانت الأمة تريد أن تحمي عقول أبنائها وقلوبهم وأن تبعدهم عن أسباب الانحراف والتطرف فعليهم أن يبذلوا جهدهم في تعليم الشباب الفكر المعتدل والوسطية التي يمثلها هذا الدين الذي وصف الله - عز وجل- أهله بقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، وأن العنف الناتج عن التطرف لا يحدثه إلا قناعة عقل وانفعال عاطفة، وتغيير القناعات لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، بل يتطلب وقتا قد يكون طويلا، ويحتاج إلى جهد قد يكون شاقا، والوصول إلى النجاح - أي في إقناع المتطرف بالمفهوم المخالف- يحتاج إلى التأني والحكمة وحسن المعاملة كما قال تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(125)سورة النحل.
لن أسهب فيما قاله الآخرون في التعاطي مع هذه القضية، وهذه بعض الأساسيات التي أرى أنها آليات ربما تكون جديدة في هذا الواقع الكبير؛ فالشباب يقرؤون كل شيء ويسمعون كل شيء ويرون كل شيء، فإذا تعاملنا مع عقولهم بهزل وبسطحية، فإننا سنخسر السجال معهم، وربما يمارسون معنا -المربين- أساليب يظهرون أنهم يوافقوننا فيها، أو بعبارة أدق ما يسمى النفاق الاجتماعي.
وأولى هذه الآليات التي لا بد منها لتشكيل الحصانة الذاتية عند الشباب تتمثل في تحديث طريقته في التفكير، فما كان صالحا في الأمس قد لا يكون صالحا اليوم، ولا بد لنا أن نتعامل مع مشكلة (الوعي عند الشباب) فكلما تدنى مستوى الوعي تدنى مستوى التفكير، وإذا كان الوعي خاطئا فسيكون التفكير كذلك، ولن يتصرف الشاب بشكل أفضل إلا عندما يتغير مستوى وعيه، ولن يستطيع أن يواجه التحديات بأنواعها الفكرية والثقافية وحتى الدينية بمستوى متدنٍ من الوعي، ومستوى الوعي ومواجهة التحديات يحدده مؤسسات المجتمع من مسجد وبيت ومدرسة. ومن الآليات أيضا: احترام الشباب، وعدم تهميشهم، ومنحهم حرية الاختيار، وتنمية مبدأ الاختلاف في الرأي، واحترام تعددية الثقافات في العالم، فالشباب إذا لم يناقش ولم يحترم رأيه فسيجد من يحترم رأيه في وسائل الاتصال الحديثة، وسيكون في غيبه عن من يحمل هماً لتربيته.
ومن الآليات أيضا: إذكاء روح الحوار عند الشباب وإتقان فنون الحجة والبرهان واحترام المحاور الآخر وخصوصياته، واستبعاد الرغبة في الغلبة والانتصار من أجل تحقيق الغايات والأهداف الإيجابية، وعلى أساس ذلك لا بد للشباب أن يدرك أن وسطية الإسلام اعتمدت الحوار بين الثقافات والحضارات، وعلى المربين العناية بذلك من خلال الآتي:
- تعليم الشباب أن هناك قيما مشتركة بين الحضارات، ومراعاة الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن.
- التأكيد على ضرورة السير معا بسلام ووئام على أساس راشد لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل.
- التأكيد على أن التطرف والغلو يتناقض مع روح الدين ومقاصده.
- التأكيد على أن القيم الإسلامية لا تدعو للإقصاء أو الكراهية، ولا تبرر سفك الدماء.
- الأمن الإقليمي أمر ضروري لا يمكن السماح بانتهاكه مهما كانت المبررات.
- تحريم الظلم بين الأفراد والمجتمعات لكونه مصدرا من مصادر الكراهية والفساد والإرهاب.
- احترام ممتلكات وخصوصيات الإنسان أيا كان جنسه وهو إرث نبوي.
- التأكيد على التوازن بين حركة العلوم والتكنولوجيا، وبين القيم الدينية والأخلاقية للمحافظة على كرامة الدين والإنسان في سبيل تعايش آمن.
- العمل على مكافحة الفقر ومساعدة الفقراء لتحرير أنفسهم من الظروف التي يعيشونها والتي تتنافى مع كرامة الإنسان، فالفقر من أسباب الانحراف، وروي في الحديث (كاد الفقر أن يكون كفراً).
- تنمية روح الإبداع عند الشباب.
- التنوع الثقافي ضرورة ملحة للتكامل الحضاري.
- لا بد من حل المشكلات التي تواجه الأمة من داخلها، وتؤثر في توجهات الشباب، ومن أهمها:
التخلف، البطالة، الجهل، الفقر، أمية الكلمة والرقم والحاسوب، غياب القدوة الحسنة، فوضى اضطراب ساحة الإفتاء، تغوّل التطرف، الانهزام الداخلي.
إن المنهج الوسطي الإسلامي الراشد يجعلنا أكثر أملا في نهوض أمتنا، والتي نسعى من خلال تلك الوسطية أن نحصن شبابنا عبر حركة ثقافية عقلانية راشدة تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتحب ولا تعادي، تقدس العدل وتحتقر الظلم وتحب السلم وتمقت الحرب وتدعو إلى الخير وتنهى عن الشر.
إن وسطية الإسلام الذي ننادي به لتحصين الشباب منهج ثري لثقافة الحوار، فليست مقيدة ولا منغلقة، وليست أحادية التفكير كما يتهمها البعض، فهي مع النور والتنوير، ومع التجديد والتطوير والتقدم، ومع الإصلاح والتغيير والإبداع، تحترم الماضي وتنهل منه، وتنشغل بالحاضر وتعيش همومه، فالماضي والحاضر يرفدان المستقبل ويصبان فيه.
* محاضر في جامعة القصيم