عندما كنت في المدرسة كان الحذاء عملة نادرة لا يلبسه إلا أبناء علية القوم، وكان أمام مدرستنا المواجهة للحرم النبوي الشريف معرضاً للأحذية يشبه في ديكوراته محلات المجوهرات، وكانت أشهر الأحذية في ذلك الوقت ماركة (مرسيدس) وكان بوزها يشبه بوز الإبرة ولأن رجلي لا تتناسب مع مثل هذه الأحذية، فقد كنت أنظر بحسد لأبناء الأسر المرتاحة وهم يخطرون بأحذية المرسيدس، كان والدي مستوراً على الدوام، لكن رجلي لا يطفئ شهيتهما إلا حذاء مقاس 45 ولابد أن يكون بدون بوز على الإطلاق وحبذا لو كان حذاءً مربعاً أو مستطيلاً وكل هذه الأسباب جعلتني أكن حقداً دفيناً على كافة الأحذية وعلى رأسها حذاء (المرسيدس) قبل أن يداهمنا الرخاء العظيم ومعه عشرات الماركات العالمية حتى أصبح سعر بعض الأحذية يقترب من أسعار الذهب والزفير والألماس، خصوصاً تلك الأحذية التي يشبه بوزها رأس الدبوس!!
أما أول دخول للحذاء إلى حارتنا التي تشتت وتشتت سكانها بفعل كثرة المال والعيال والمشاريع فقد كان على يد رجل طاعن في السن قيل إنه كان مهاجراً إلى العراق، حيث المال والنخيل والماء الزلال، كان يعمل هناك جندياً أو حارساً وقد عاد من هناك بسمت جديد على الحارة كلها طربوش مثل الذي كان يرتديه عبدالكريم قاسم، وبالطو من الممكن أن ينحشر معه فيه عشرة أطفال، كان البالطو كالخيمة طويل وعريض وداكن وعلى مقدمته بعض النياشين أو العلامات أما الحذاء فقد كان خشناً وباهت اللون مثل رمال الصحراء وله خيوط قاسية ورقبة طويلة ربما تصل إلى نصف ساقه حذاء لا يليق إلا برجال الصاعقة أو هتلر أو صدام.. لا رده الله!
الرجل كان جادا، مشيته تشبه مشية العساكر، حتى وهو يعتمد على العكاز، وقد أطلق على هذا الرجل منذ البداية لقب: أبو كنادر! راح أبو كنادر! جاء أبو كنادر!
والكندرة هي الاسم الشعبي للحذاء في الحجاز، وربما في المدينة تحديداً، ويعادل هذا الاسم (القندرة) في العراق والكويت، وللأحذية العديد من الأسماء ربما بعدد أسماء القطط أو السيف، هناك: الحذاء، التاسومة، الزنوبة، الشبشب، الشراك، الصندل، البوط، الزبيرية، التلي، البسطور، الجزمة، الخف، والقائمة طويلة، وهناك أحذية كثيرة دخلت التاريخ من أوسع أبوابه أبرزها حذاء (نيكيتا خرينشوف) الذي خلعه من رجله عام 1960م وضرب به الطاولة التي كان يخطب عليها في أحد دورات الأمم المتحدة، في مواجهة رئيس الوزراء البريطاني (هارولد مكميلان) عند مناقشة الاقتراحات السوفيتية بشأن الحد من التسلح، أما الحادثة الثانية فقد كانت عندما أسقط تمثال الطاغية صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، حيث تعرض التثمال للضرب بالأحذية وهو يسقط من مكانه!
وشهدت بعض البرلمانات والمؤتمرات العربية والآسيوية خصوصا تراشقا بالأحذية أثناء المناقشات لكن المشكلة أن الأجانب عموما يعتبرون الحذاء أداة إما للاستخدام وإما للاعتداء مثله مثل العصا والبيض الفاسد والطماطم وقشر الموز لكنهم لا يعتبرونه أداة للإهانة أو الحط من الكرامة لذلك فقد خاب ظن العديد من العرب فلم تنشب معركة تسقط فيها العديد من الرؤوس بفعل الحذاء الجديد الذي دخل إلى التاريخ من أوسع أبوابه مع استعداد العالم لتوديع العام الماضي وتوديع من لم تطالبه ليس قندرة واحدة ولكن قندرتان!
إلى اللقاء