لا يسلم البيت الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم.. قال شاعرنا هذا البيت وذهب، ليترك في نفوسنا هذه القناعة التي لا نستطيع أن نتجاهلها، إننا إن لم نرق الدماء على جوانب محمياتنا فلن
نصون بيوتنا وكرامتنا عن الأذى، فللدم هيبته وأثر في قلوب الآخرين يفرض مهابتنا والخوف من التطاول علينا.. لكن شاعرنا قال بيته ليرصد حالا مر بها أو تفاعل معها ذهبت كما يذهب غيرها، قد تكون ملائمة لمثل ما قال في وقتها أو مقدار عنفها، لكنها اليوم بلا شك لم تعد كما كان يقول.. المشكلة التي أرى أننا لانزال ندفع ثمن تبعاتها، ليست في بيت من الشعر قيل لتوصيف وضع ما أو لبث الحماسة في أمر ما أو لمجرد مواقف عابرة تفاعل معها شاعر فجاشت مشاعره بما قال، فكل الشعر العربي قديمه وحديثه الذي نقرأ ونحفظ أعذب ما قيل فيه لا يدعونا إلا إلى مثل هذا، فلا مشكلة إذا في أن يقال في بيت شعر ما يتواتر في كل الشعر الذي نقرأه ونحفظه، إنما المشكلة فيما ترسخ في أرواحنا من قناعات، وما تثيره هذه الأبيات البليغة من الشعر من حماسة في أرواحنا عندما تتصادم مع واقع جديد صلب بنظامه ومتغيراته، وقوى جاوزت صهوات الخيل أو حد السيوف وما نتقنه من بلاغة، ومنطق متقلب مبني على فلسفة لا تنصب غالباً فيما يخدم مصالحنا الدينية والقومية ويحقق ما يحفظ ديارنا وبيوتنا من الأذى، فقد تناقصت مكانتنا، واستبيحت معظم بلداننا بشكل أو بآخر، وتحكم غيرنا في تسيير حياتنا وفرض إرادته وقوانينه ونمط حياته علينا، وعجزت قدراتنا على أن نكون كما تصورنا قصائد نحفظها..
هذا التضاد بين ما نقرأ ونحب أن نقرأ ونتغنى به في كل محافلنا، ونحرص على أن نبقيه في وجداننا، وبين واقع يفرض قوانينه، ويستبيح دماءنا ويحجم المساحة المسموح لنا بالتحرك فيها، تسبب في حدوث أزمة نفسية لنا، فلا نحن استطعنا أن نعيش في الصدارة التي لا نبدلها إلا بالقبر كما يقول الشاعر الآخر، ولا وجدنا في واقعنا ما يدعو للتفاخر والتباهي ولو كذباً بعد أن سلب منا كل مؤسسات التفاخر، فانقلب سحر بياننا علينا، ونحن نرى إخوة لنا يحاصرون ويذبحون كما تذبح البهائم، وتعالى في نفوسنا الإنكسار، فبقينا في أماكننا نراوح، لانحن عدنا للوراء لنلحق بماضينا، ولا تقدمنا في خطواتنا على غيرنا في سباق على المستقبل لا يعترف بالقصيدة ولا بالشعارات يرتب معظم تفاصيله غيرنا، فصرنا إلى ما صرنا إليه، مجرد صخب يعلو بين حين وآخر، وشعارات رنانة تملأ المكان بلاغة وخطابات شجب واستنكار، ومظاهرات مبحوح صوتها بكل الكلمات، وقصائد مفعمة بالفخر تزيد من حماس أزمتنا النفسية، بينما يقول الواقع أن دماءنا تسيل في كل الأرض دون أن تصان محمياتنا وبيوتنا من الأذى.. والله المستعان.
naderalkalbani@hotmail.com