بين الإسفاف الأيديولوجي المتمثل في اجتراح جريرة النفي التكفيري الحاد, والتجافي عن الاستضاءة بالمعطيات المعرفية المستقاة من الفعاليات العلمية المعتبرة في الأمة, رباط جدلي ذو طابع اطرادي ليس بالمكنة اختزاله إلى أحد مكونيه, فوقائع التاريخ النائي والداني تشهد بأن ثقافة التكفير تطفح متتالياتها البشعة على السطح..
.. وتكون في أوج ازدهارها كلما تنامت الهوة بين المجتمع وقياداته المرجعية الراسخة في ميادين المعرفة والمتشبعة بمعطياتها على نحو رشحها لتمثل دور القدوة التي تملك زخماً كاريزمياً تتبوأ جراءه مكاناً طليعياً في ذروة السلم الاجتماعي. الإنسان بطبيعته لا ينجذب نحو التفاعل مع ما يطرح من رؤى تقدمية ولا يعيرها الاهتمام الكافي مهما كانت درجة مصداقيتها ما لم يعاين ذلك مجسداً في قدوة بشرية, وذات إنسانية تتناول الطعام وتسير في الأسواق. الإنسان لا يقبل في مجال القدوة في كثير من الأحيان الإحالة إلى التاريخ بل يريد - كجزء من إشباع بعده الجبلّي- أن يعاين المثال المتعالي مستحيلاً إلى واقع تطبيقي يتحرك على الأرض. والعلماء (الراسخون في العلم) بحسبهم ذوات فاعلة في المعرفة يشكلون قدوات إيجابية يفترض اقتفاء أثرها والنسج على منوالها. العلماء ككائنات معرفية فاعلة قادرة على التأثير على حركة الوسط الذي يتفاعل معهم بما يبتكرونه من إبداعات فكرية وما يقدمونه من معارف تساهم وإلى حد متناهي الرحابة في صنع الرأي العام؛ العالم قد يكون العنصر المختص الوحيد الذي له تأثير بارز على الساحة الاجتماعية فهو ليس كالفيلسوف أو ذوي الفكر المتعالي الذين يشتغلون في حقول التجارب ويحلقون في سماء المثل, أولئك الذين استقطبت اهتماماتهم عوالم نخبوية وانغمسوا في شؤون خصوصية معمقة وهذه طبيعة الفلسفة حيث تدور في مدارات ليس للدهماء فيها أدنى حظ من تفكير, لأنه لا يستوعبها إلا القلة النادرة كما أن للمتصوفة دوائرهم الخصوصية التي تقوقعوا فيها وعزلوا أنفسهم عن عموم المجتمع وقضاياه وأيضاً انشغل المتكلمون بقضايا تجريدية نائية عن واقع الأمة ولا تلامس همومها. ولكن ومع هذا البعد الاعتباري المكثف للعلماء وما يتمتعون به من مكانة عالية المستوى إلا أنه يجب أن لا يعزب عن الوعي أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها وإنما لما قام فيهم من العلم بالله والعلم عن الله جل في علاه, فالمعرفة هي رأسمالهم في سوق الحياة الفسيح الآفاق, وليس توجيه الاستفسارات لهم استهدافهم بالأسئلة بحثاً عن آرائهم الذاتية أو انطباعاتهم الشخصية أو ميولهم الوجدانية وإنما توجه إليهم الأسئلة تطلعاً لمعاينة ما يعونه فهماً عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما يفقهونه وعياً من النصوص الكريمة, وتمعن معي أيها القارئ الكريم في هذا الكلام للإمام (الشاطبي) وأطل التمعن فيه حيث يقول: (فعلى كل تقدير لا يتبّع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا وأنه متى وجد متوجهاً غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكماً ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة) انظر (الاعتصام):(2/860) ولو تأملنا في مواقف الناس من العلماء لألفيناهم ثلاثة أطراف:
الأول: موقف التقديس والطاعة المطلقة للعلماء والثقة العمياء بهم وهذا ولا شك شأن مذموم ندد الطرح القرآني بسالكيه وشجب هذا الموقف الذي اتخذه بنو إسرائيل حيث { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}
الثاني: موقف التدنيس. حيث يقلل من قيمة العلماء ولا يضع لهم وزناً وليس لهم أدنى اعتبار ولا يعترف بدورهم النخبوي المؤثر. إنه يهمشهم ويعمل وبجهد مستميت لزحزحتهم عن دورهم الطليعي وهذا الموقف مع سابقه يتقاسمان هذا الخطأ المنهجي.
الطرف الثالث: وهو الموقف الموضوعي السليم. هو ذلك الذي يحتفظ بنظرة تقديرية لشخوصهم ويتعاطى باحترام مع اجتهاداتهم الفقهية, ويدرك دورهم المحوري في إيقاظ الوعي, كجزء من اشتراطات وجودهم الفاعل, وينزلهم منزلتهم لا إفراط ولا تفريط فهو لا يقدس وأيضاً لا يدنس.
إنه لا يجردهم من مقاماتهم الرفيعة ويحط من مكانتهم وفي المقابل لا يجردهم من بشريتهم ويرفعهم فوق المرتبة التي يستحقونها.
وفكر التكفير هو من ذلك النمط التهميشي الذي يتجافى عن العلماء ولا يقيم لهم قيمة فضلاً عن أن يصدر عن آرائهم أو يمتح مما يتوافرون عليه من قيم معرفية.
لقد كان الباعث المركزي على اجتراح الخوارج للنهج المسلكي المحظور وآل إلى انزلاقهم في منحدر التعاطي المشوه مع نصوص الشريعة الغراء هو اعتدادهم اللامبرر بقناعاتهم الصارمة التي يرتؤونها ويمنحونها قيمة إضافية لا تضاهيها قيمة أخرى في قبال النصوص واعتزازهم المأفون بذواتهم في قبال استصغار الصفوة المعرفية فكان أول خارج (ذوالخويصرة) حيث اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (اعدل يارسول الله) ثم تواطأ الخوارج على هذا المسلك اللاسوي فكانوا يشكلون جبهة معارضة ضد علماء الصحابة رضي الله عنهم ويرفضون الاقتباس من أثرهم ويأنفون من الامتثال لما يبثونه من أفكار بل ويتبرأون منهم ويسقطون عليهم وصف الكفر ويستحلون دماءهم وكذلك كان منهجهم مع التابعين.
وفي واقعنا الراهن كان التجافي الفكري عن التواصل مع الصفوة العلمية, وعدم الاشتباك المعرفي المتفتح مع إنجازاتها, والاعتداد الغالي بالذوات المفتقرة لما يبرر الاعتداد بها من أجلّ بواعث الإلتياث بوباء التكفير؛ وليس استدبار العلماء في خطاب التكفير مجرد ممارسة سلوكية لازمة لمعتنقيه فحسب بل ثمة اشتغال تنظيري مكثف لشرعنة تعديته, وشعبنة مباشرته والتدليل على منطقيته وأنه يتعذر اجتراح أي مسار للسّمو دون التوافر عليه.
هذه الفئة تستغل بعض أوجه القصور الذاتي, أو بعض الثغرات المسلكية عند بعض العلماء أو الضئيل القدر من الزلات الفتوائية التي تأخذ طابع الاستثناء وتوظفها على نحو ماكر وكضرب من التمويه الأيديولوجي لصالح النأي عنهم وعدم الأوبة إلى معطياتهم القولية والاستعاضة عن ذلك بمباشرة الاجتهاد من غير أهلية, والتّفاقه المتعالم مع هشاشة الأرضية العلمية التي يجري التحرك عليها فيتزبب الواحد منهم قبل أن يتحصرم ويتصدر مع أنه لم يؤهل, بل ولا يستحق لا لشخصه, بل لأنه من غير أهله؛ بفعل افتقاره لاشتراطات التصدر, ويفرض قراءته الفكرية بحسبها السبيل الواصل إلى التقدم المنشود.
وبعض النماذج التكفيرية لا تكتفي بذلك بل تتجرأ وعلى نحو مأفون على إحالة التهم إلى العلماء ومحاولة توظيف تقاطعاتهم الضدية لإسقاطهم وضرب بعضهم ببعض وتقزيم القيمة العلمية لمنهجهم الفتوائي وتشكيل تصورات ذهنية غاية في السلب عن أشخاصهم واستنطاق ما تنطوي عليه سرائرهم القلبية وتقويلها ما لم تتفوه به كلون من محاكمة نواياهم, والعمل على إثبات أنهم هم العائق الأول أمام كل نمو نهضوي فاعل, ثمة هجوم مسعور عبر بيانات محاكماتية, ونصوص تخوينية يجري تسطيرها على الورق, وعلى الصفحات الإنترنتية, وفي المقابل تعلن عن ذاتها حارسة للحقيقة, وصمام أمانها والممثل الوحيد لها!, يقول أحد رموزهم وهو (شكري مصطفى) في رسالته: (إجمال تأويلاتهم, وإجمال الرد عليهم) عن الإمام النووي - رحمه الله -: (لقد كذب على رسول الله صلى الله عليهم وسلم وعلى أبي ذر وعلى الإسلام).
ثم قال: (النووي ضرب صفحا عن الرواية الأخرى من حديث أبي ذر وأهمل اشتراط أن يكون ذلك ختام حياة الإنسان وشطب اشتراط ألا يشركوا بالله شيئا حتى يسلم له مذهبه الفاسد الممتلئ رغباً وكذباً وحقارة.
إن الجمع الذي جمعه النووي جمع بغير الحق, وجمع من يحطب بليل ولا يتقي الله فيما يجمع) - انظر (مشكلة الغلو في الدين)(1/194) هذا الكتاب وهو عبارة عن أطروحة للدكتوراة والذي أبدع مؤلفه فضيلة الشيخ الدكتور (عبدالرحمن بن معلا اللويحق) حفظه الله في مقاربة مشكلة الغلو وفصل وبمنهجية مدللة في تجلية بواعثها وتمظهراتها مبيناً الآثار الناجمة جراءها وقد أجاد في ذلك أيما إجادة - مع أن الإمام النووي رحمه الله لم يمارس اختزالاً لشيء من الروايات, ولكن كل المأخذ عليه, والذي نقموا عليه بسببه وشنوا عليه حملات شعواء, هو أنه يقرر المذهب السلفي في تكفير العاصي, وأنه يتعذر إطلاق الحكم عليه بالتكفير.
الخطاب التكفيري يعي تلاشي فرصه في التأثير على بنية التصور العام ما دامت القيادة الدينية تمارس دورها الحيوي في ترشيد البنية العامة الأمر الذي يحدوه إلى زحزحة هذه المكانة ليخلوله - من ثم - الجو, فيَبيض ويَصفر, وليتمكن بالتالي من إشاعة الروح التكفيرية.
عندما لا يدور العالم في فلكهم يولدوا عنه تصوراً ذهنياً غاية في السلب ويثيروا زوبعة من الشكوك المكثفة التي تتمحور حول نقاء طويته, فيؤلبوا عليه الرعاع ويطلقون عليه منظومة من النعوت الكفيلة بإطاحته وزعزعة مكانته في الذاكرة الجمعية وبالتالي ينفض عنه أكثر الأفراد اتصالاً به فضلاً عن كافة مريديه.
يقول (أبومحمد المقدسي) في (كواشفه) الحاشية 119 في معرض حديثه عن الشيخين (ابن باز) و(ابن عثيمين) رحمهما الله تعالى: (إن مما يؤسف له أن كثيراً من أتباع ومقلدة هؤلاء المشايخ لازالوا يغضبون إذا وصفنا مشايخهم هؤلاء بالضلال والإضلال... رغم ما تقدم كله... وليت شعري بماذا يريدوننا أن نصفهم) وهكذا فهذا الخطاب يسعى لاهثاً إلى نزع أي قيمة اعتبارية لدور القيادات العلمية في الحراك العام برغم تأثيرها الميداني الفاعل! ويكثف جهوده لإفراغها من دورها الريادي.
تهميش العلماء لدى هذا العقل المفتقر لأدوات عقلنته والفاقد لعناصر ترشيده خطوة تأسيسية لما بعدها فهو لا يستطيع أن يمرر أجندته الخاصة إلا بإسقاط العلماء باعتبارهم العقبة الكؤود التي تحول بينهم وما تهفوا أخلادهم إليه.
البنى التكفيرية تضيق ذرعاً بالحضورالفاعل للعلماء في السياق المجتمعي لأن هذا الحضور بالضرورة سيحسر من دائرة الحراك التكفيري وسيضطره إلى أضيق الطريق؛ هذه البنى الاقصائية تتفانى في تهميش العلماء لأن وجودهم سيعزز منطق الرفض لأدبيات التكفير وسيشعبن حالات التمنع الشعبي على مفرداته التي يستميت في بثها على نحو تعميمي؛ إنه يعي أن عدم التماهي العلمائي مع متبنياته سيقلل من فرص تقبله في الوعي الجمعي بل وسيعرضه لمواجهة ألوان المقت والازدراء.
إن مما يثير العجب أنه في ظل هذا التهميش للعلماء نجدان أصحاب الديانات الأخرى ينطوون على مشاعر تقديرية لعلمائهم ورجال الدين لديهم, فهذا (مارتن لوثر) كان له حضور تبجيلي لدى الذهنية المنفعلة بأطروحته وقد سطرت أكثر من ثلاثين رواية تحكي عن شخصيته وتعبر عن كافة جهوده الدعوية لمنهجه, ومثله (كالفن) و(توماس الاكويني) وصفوة القول: فإن بتّ الأفق العلائقي مع القيادات العلمية والخفوت التام لعملية التواصل المعرفي معها في سياق الاشتغال اللاهث على استنبات مبلورات تعميق الحضور للحالة التكفيرية جعل هذا الحس التكفيري يقبع خارج التاريخ ويفكر بالتالي خارج الأطر الزمكانية على نحو حدابه إلى عدم الاكتراث بما يترتب على عبثيته من إشكاليات لا يدفع ثمنها الباهض إلا المجتمع ومن دماء أبنائه الأبرياء!.
Abdalla_2015@hotmail.com