يبدو أنَّ قِلّة من النُّخب الفكرية والإعلامية المجتمعية لم يكْفِها هذا الغثّ، وهذا الخواء، الذي تبثُّه فضائيات عربية، وغير عربية، عبر برامج الدراما، والمنوعات، والمسلسلات، والأفلام، ذات التأثير السيئ للغاية على المنظومة الأخلاقية والسلوكية في المجتمع، بما يتعارض بالكلية مع مقاصد الشريعة، ومقومات الإيمان والأخلاق والمروءة. فضلاً عن مواثيق الشرف الإعلامي.
فهذه النُّخب الفكرية والإعلامية تسعى حثيثاً، ومنذ فترة زمنية غير قصيرة، نحو التقعيد لثقافة السينما، كأداة فنية وحضارية للشعوب والمجتمعات الإنسانية، ووسيلة داعمة للبناء الثقافي لعموم أفراد المجتمع، كما تسعى في هذا الإطار إلى حشد المبررات والدوافع المستوجبة للنظر في افتتاح دور سينما في المملكة!!
وفي اعتقادي أنَّ هذا الطرح، وهذا التقعيد، يستند إلى حججٍ واهية، وذرائع واهنة، وأقول ذلك من منطلقات عِدّة أبرزها:
- إنَّ البناء الثقافي والمعرفي له مصادره وأدواته ووسائله وأوعيته! والسينما بالقطع ليست من ذلك في شيء، بلْه إنَّها لا تعدو أن تكون أداة استهلاكية، وبوابة للمتعة الحسية في الغالب، فهذا هو تصنيفها المقبول عدلاً، ومنطقاً، وواقعاً!!
- وما ساقوه من حججٍ وذرائع لتبرير دعواهم، وتعضيد مسألتهم، فيصعب أن تثبت أمام منطق العقل، وسلامة المقصد!! ويمكن تفنيدها، وبيان وهنها:
- من الحجج والذرائع في هذا السياق القول إن افتتاح دور سينما سوف يعالج جزئياً ظاهرة تسكُّع الشباب والناشئة في المقاهي والاستراحات ونحوها، إذ إنَّهم سيجدون ملاذاً ثقافياً آمناً للفائدة والمتعة!! يقيهم ويحفظهم من مفاسدها!! وهذه حجة وذريعة غير صائبة، فمعالجة ظاهرة التسكُّع هذه، لها قنواتها العلمية، وأدواتها الفنية، وإقحام السينما ضمن طرائق المعالجة، أمر لا يستقيم معه ميزان العقل والمنطق، إذ إنَّها وفي كل مواقع وجودها، أداة لبثِّ الأفلام، التي لا تخلو في الغالب من موضوعات أو مشاهد مبتذلة وسائر التصرفات والسلوكيات غير المقبولة، فكيف تكون أسلوب معالجة، ففاقد الشيء لا يعطيه!!
- ومن الحجج الأخرى أنَّ دور السينما موجودة في كل مكان، وأبناء الوطن يتكبدون العناء والمشقة، والتكاليف المادية، لمشاهدة السينما في هذه البلاد أو تلك، ومن ثمَّ، وأمام هذا الأمر، ينبغي أن نرفع هذا العناء، وتلك المشقة عنهم، ودون ذلك سنبقى نُغرِّد خارج السِّرب!!
وهذه حجة، هي الأخرى، واهنة، فالتصرف الرشيد، والوازع الديِّني والأخلاقي، يستلزم تغليب المصالح على المفاسد، والمعروف على المنكر، والتقوى والاستقامة على الأهواء والنزعات الفردية الضيقة، والوقوف بالتالي في الاتجاه المعاكس، بالتحذير من انشغال الأفراد والأُسر في ما يضرهم ولا ينفعهم.
- ومنها الادعاء بأن الأفلام المعروضة ستخضع لنظام رقابة صارم لقص المشاهد والعبارات التي تخدش الحياء!! ولكن إذا كان المحتوى جُّله فاسداً، فلا معنى ولا فائدة من وجود نظام رقابة!! إذ سيظل دوره هامشياً، ومحدودا للغاية!!
جاء في كتاب إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين: ( وَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ أَحَدُ أَرْبَاعِ التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ أمر وَنَهْيٌ، وَالأمر نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي: وَسِيلَةٌ إلى الْمَقْصُودِ، وَالنَّهْيُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا يَكُون الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةً فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلى الْمَفْسَدَةِ؛ فَصَارَ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلى الْحَرَامِ أَحَدَ أَرْبَاعِ الدِّينِ).
إذا كان هذا هو حال مبنى السينما، وهذا مآله، فحريٌّ بمن يسعى إلى إنشائه، وتعميره، أن يراجع نفسه، وأنْ يعلم يقيناً بأن الاحتماء خلف أسباب، وحججٍ، وذرائع واهنة، لا يحجب الرؤية عن الحقائق الدامغة، والبراهين الساطعة، والأدلة الثابتة، والنتائج المؤكدة. وحريٌّ به كذلك أن يعلم يقيناً بأن هشاشة هذا المبنى، مدعاة لسقوطه، وحريٌّ به ثالثاً أن يشخْص ببصره يمنة ويسرى، هنا وهناك، ليرى بأم عينيه هذا الحشد الهائل من أدوات اللهو البريء، وغير البريء، المتناثر بين ظَهرانِينَا، وحَوَالَيْنَا، الذي أصاب البلاد والعباد بما يشبه التُّخمة، وانعكس سلباً على هويتنا الثقافية، وتقاليدنا الاجتماعية، وقبل ذلك كله على قِيمنا الدينية.
بمقتضى الحال فإن الإمعان في تهيئة الأجواء، لاستيراد المزيد من أدوات اللهو، خاصة إذا كانت من نوعية وحجم وأثر أداة السينما، تدفع بنا جميعاً، وبالأخص نُّخب المجتمع الواعية والفاعلة للكشف عن مثالب هذه البضاعة، وزيفها، وبيان خطورة استيرادها.