(المجتمعات الأكثر ذكاءً) تعرف كيف تنمّي أو تحافظ على مستوى ذكائها الجمعي على أقل تقدير، كما أنها تدرك كيف تحمي نفسها من عوامل الانكماش الشديد أو الانقراض الحضاري بشقه الثقافي أو المدني؛ ذلك أنها تتوفر على قدرات هائلة وآليات ذكية تمكّنها من تصنيع نوعيات جيدة وفعالة من المثقفين والمفكرين والأدباء والروائيين والفنانين والعلماء والباحثين والإستراتيجيين، وبأعداد كافية بحسب احتياجاتها التنموية وتحدياتها الحضارية، وينبع ذلك من إيمانها بأن المجتمع يقوم بشكل جوهري على (منتجات) النخبة المفكرة والمبدعة في مجالات تخصصهم واهتماماتهم،،،،
،،،مما يدفعها إلى وضع التشريعات والأطر القانونية لبناء المؤسسات اللازمة من جهة، والعمل على إزالة كافة العوائق التنظيمية والإجرائية من جهة ثانية، مع تقديم الدعم المالي والمعنوي الكافيين ل (تمكين) القائمين على تلك المؤسسات من تحقيق رسالتها الحضارية بتصنيع تلك النوعيات الجيدة والفعالة.
والشواهد والنماذج على ذلك كثيرة ومتنوعة، ولعل النموذج البريطاني من أشد تلك النماذج تميزاً وتفرداً، فالمجتمع البريطاني فطِن لتلك الميزة من مزايا المجتمعات الأكثر ذكاءً منذ وقت مبكر، فعمد إلى سن التشريعات وبناء المؤسسات وتقديم التمويل السخي والمستمر، ومن أهم الإنجازات في النموذج البريطاني تأسيس مؤسسات بحثية راقية بمعايير عالية لتصنيع (العقول المفكرة) والإفادة من طاقاتهم الخلاّقة، ومن أهم تلك المؤسسات جامعتا أكسفورد وكامبريدج اللتان تأسستا في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تم تهيئة البيئة المواتية للجامعتين العريقتين، عن طريق استجلاب العلماء والباحثين النابغين ودفعهم إلى الانخراط في تلك المؤسستين عبر القرون اللاحقة وتوفير الدعم الإداري والمالي بما في ذلك الأوقاف الضخمة التي تدر ريعاً سنوياً كبيراً.
وقد تضافرت الجهود البريطانية في سبيل تدعيم هذا النهج الذكي لتصنيع العقول المفكرة طيلة القرون الماضية، فمثلاً نجد أن البريطانيين في القرن السابع عشر الميلادي أسّسوا مدارس عليا مجانية مخصصة لإعداد الكفاءات المؤهلة لإدارة الأعمال والمؤسسات، وفي القرن الثامن عشر تم التركيز على (صفوة) الطلاب، وترسّخ ذلك طيلة القرن التاسع عشر عبر العديد من المؤسسات والآليات، ثم أخذ ذلك الاهتمام يتجه نحو الطلاب المبدعين والموهوبين بدءاً من القرن العشرين، حيث شهد العقد الثاني من ذلك القرن تكثيفا للحركة البحثية حول الأطفال المبدعين والموهوبين التي وضع على أثرها مقاييس وإجراءات الكشف عن المبدعين والموهوبين، وعقب الحرب (العالمية) الثانية مباشرة أصدر البريطانيون نظاماً جديداً للتعليم يلزم كل الأطفال الصغار (11 سنة تقريباً) بدخول اختبار لقياس الذكاء والقدرات الأكاديمية وهو اختبار eleven-plus-examination، وفي هذا الاختبار تم التقليل بشكل واضح من النزعة العنصرية في الأنظمة السابقة التي كانت تراعي أو بالأحرى (تنحاز) للطبقات الاجتماعية العليا !! وفي هذه الأيام نحن نشاهد أن (العقل البريطاني) مازال محتلاً للمراتب العليا في التأثير في المشهد العالمي في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية على الرغم من (غروب) شمس الإمبراطورية البريطانية والتحديات الكبار التي واجهها ذلك العقل في ميادين كثيرة... غير أنه النفس الطويل في تصنيع العقول المفكرة التي تتسم بالمرونة الذهنية العالية والتفكير الإستراتيجي والممارسة النقدية المنهجية الصارمة!!
لسنا هنا بصدد الحديث التفصيلي عن تلك النماذج التي تميزت بها المجتمعاتُ الأكثر ذكاءً في سبيل صناعة نخبها المفكرة والمبدعة، وإنما كان ذلك توطئة إلى الإشارة إلى أن من أبرز المشاكل التي نعاني منها في عالمنا العربي والإسلامي ضعف قدراتنا على تصنيع مثل تلك النخب، وليتنا اكتفينا بذلك الضعف، بل راح مشهدنا الثقافي والبحثي (يتطامن) شيئاً فشيئاً في معايير الفرز والقبول والاختيار، مما ورّطنا بدخول أعداد كبيرة من (النخب) بمستويات متواضعة الأمر الذي انعكس سلباً على المنتج الثقافي والبحثي، ولاسيما في العقود الأخيرة. وهذا أمر جلي نلحظه جميعاً، فكم هي أعداد الأبحاث والكتب والروايات والمنتجات الفنية التي تسهم في تنشيط فعاليتنا الفكرية والتنموية؟؟
كان للدكتور عبدالوهاب المسيري موقف صارم إزاء ظاهرة انخفاض المعايير في جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية والتربوية، ومن ذلك أنه ذكر لي أنه قد أرسل رسالة احتجاج إلى وزير التربية والتعليم في مصر يندد فيها بظاهرة حصول بعض الطلاب على ما يزيد على نسبة 100% في نتائج الثانوية العامة، فبعضهم يحصل على 101%-102%-103%....!!، وكان المسيري يشدّد على أننا قد فشلنا في تعليم أولادنا كما ينبغي في حين أننا أفلحنا بدرجة مذهلة في تعويد طلابنا على (مهارة اجتياز الاختبارات) - كما يسميها المسيري-، ويذكر بأنه قد رسّب أحد الطلاب الحاصلين على مثل تلك النسب الخرافية!!
وحديثي هنا لا ينصب حول تأسيس (مراكز بحثية) تستهدف فقط (إنتاج) الأبحاث والدراسات والتقارير والتوصيات، وإنما يتكثّف حديثي حول المراكز البحثية التي تستهدف أيضاً تصنيع العقول البحثية والمفكرة بجانب الإنتاج البحثي والفكري الراقي، ولقد كان لمفكر القرن الدكتور المسيري اهتمامات موسّعة بفكرة (التلمذة) - وهي فكرة محورية وأصيلة في تراثنا العلمي - ؛ مما جعله يستعين في أعماله البحثية بالكثير من الباحثين ومساعدي الباحثين بمختلف مستوياتهم، وقد كان من بينهم فئات شابة لديها ملكات بحثية وفكرية وقابلية للنمو والتطور المنهجي والبحثي، وقد جهد الدكتور المسيري لتنظيم اجتماعات دورية في (شقته) في مصر الجديدة والتي خصصها ل (جهاده) البحثي والفكري، وقد أخبرني الصديق الدكتور محمد هشام - أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة حلوان وأحد أبرز الباحثين في فريق الدكتور المسيري- أنهم كانوا يجتمعون مع الدكتور المسيري في لقاءات دورية للمناقشة والمطارحة وتقييم الانجازات والتعليق عليها وفق الأطر المعرفية - الإبستمولوجية - والمنهجية والإجرائية، وقد كان الدكتور المسيري شديد الحرص على أن يشارك الجميع في طرح آرائه وأفكاره حتى الباحثين والباحثات الشباب، بل كان ينصت لهم ويحترم كينونتهم العقلية ويحاورهم كأنداد لا تلاميذ ... ويضيف الدكتور هشام: أنه حين يسخن النقاش فيما بيننا حول بعض المسائل الشائكة فإن الدكتور عبدالوهاب يقترح علينا أن نأخذ قسطاً من الراحة، ومن ذلك أننا نستقل باخرة صغيرة في رحلة ماتعة على النيل، وفي تلك الرحلة نأكل ونشرب ونستمتع ونتحاور أيضاً ... وكانت الرحلة النيلية بمعدل شبه شهري، وقد يصطحبون الأطفال في بعض الرحلات، وكان ذلك برغبة المسيري، نظراً لانجذابه الشديد إلى عالم الطفولة، ذلك العالم الذي يعرف لغته وأدواته وأسراره وكيف يتعامل معه بكل الإنسانية...
إذن نحن بحاجة ماسة إلى إعادة التقييم لمستويات فعاليتنا في تصنيع النخب المفكرة والمبدعة التي يمكن لنا الاعتماد عليها في مواجهة التحديات الحضارية الكبرى التي نعايشها في كثير من المجالات فضلاً عن بناء وتطوير الأطر المعرفية - الإبستمولوجية - والمنهجية وتأسيس المنظومة المفاهيمية والنماذج التفسيرية التي نستكشف بها الظواهر الإنسانية والاجتماعية والطبيعية ...
ونعتقد أن الدكتور المسيري بموسوعيته المنهجية المدهشة - التي أشرنا إليها سابقاً - والتي أسهمت في الدفع بنا قدماً في اتجاه تطوير الأطر المعرفية والمفاهيمية والنماذج التفسيرية في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية، وما خلّفه من إنتاج متنوع من شأنه خلق العديد من الأسئلة التي يمكن للعقل العربي الاشتغال عليها، بجانب الإشكاليات التي تحتاج إلى معالجة منهجية دقيقة ورؤى نقدية صارمة، وينضاف إلى ذلك المشاريع البحثية والفكرية التي أسس لها ولم يسعه إكمالها، كل ذلك وأكثر يؤكد على حاجتنا الماسة إلى تأسيس مؤسسة خاصة باسم الدكتور عبدالوهاب المسيري.
وسيكون لنا في المقال القادم جولة تفصيلية حول المؤسسة المقترحة للمفكر الإنسان .. المفكر الصادق ..المفكر الكارزمي ، مع التأكيد على أن تأسيس مثل تلك المؤسسة وإن كان يتضمن نوعاً من التكريم المعنوي والتاريخي للدكتور المسيري إلا أننا نشدّد على أن ذلك يأتي - بالدرجة الأولى - كاستجابة ذكية ومطلب ملح للوفاء ببعض احتياجاتنا الراهنة ومواجهة بعض تحدياتنا المستقبلية!
Beraidi2@yahoo.com