الرياض - (الجزيرة)
لاحظ أكاديمي متخصص في الطب النفسي أنه في الأزمات الكبرى يغيب عن الناس استحضار السنن الكونية والسنن الإلهية، ويلجأ الناس إلى اتهام وتراشق بعضهم لبعض، وأن الناس في الأزمات يبالغون في التشاؤم من خلال ما يرونه من صور ومشاهد للأحداث، وهذه هي الهزيمة النفسية التي تجعل الإنسان لا يستطيع أن يتأقلم، ولهذا قد لا يكون بث كثير من المشاهد أو نشر مجموعة من الحقائق قد لا تكون دائماً إيجابية.
وقال: إن الحس الجمعي حس متعب في هذا المعنى، وهذا يقود لليأس، وهذا اليأس ينصب دائماً على أحد تتهمه ولا تتهم نفسك بينما الله - جل وعلا - قال {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، فالناس دائماً في الأزمات لا تقوم بواجبها أكثر، وتطيع الله - جل وعلا - أكثر، وترجع إلى ربها أكثر، فلا يجب اتهام النفس وهذا صعب جداً، وهذا ما يحصل الآن في أزمة المسلمين.
جاء ذلك في المحاضرة التي ألقاها الدكتور عمر بن إبراهيم المديفر استشاري طب نفس الأطفال والمراهقين رئيس قسم الصحة النفسية بمدينة الملك فهد الطبية للحرس الوطني بالرياض بعنوان: (كيف نواجه الأزمات النفسية)، وذلك مساء يوم الجمعة الماضي في مقر (منتدى العُمري) بحي الفلاح بالرياض.
وقال: إن الأمة تمر في حاله صعبة ليس فقط في أحداث غزة هذه الأيام، والناس وقت الأزمات يتعاملون معها بأصناف وأشكال لكن جزءاً منها أن الناس يحتدون على بعضهم البعض، تجد أن الناس يقسون على بعضهم البعض والقسوة في الغالب تفسد قدرة الناس على التعامل مع الحدث أو الأزمة فكلما توترت الأمة كلما بدت تتهم بعضها بعضا، وهذه من إشكاليات البشر الذين جبلوا على عدم تحمل التهديد.
وقد استهل الدكتور المديفر المحاضرة، مبيناً أن الهدف من هذه المحاضرة وضع بعض القواعد العلمية لمواجهة الأزمات النفسية وتنزيلها تنزيلا اجتماعيا واقعيا على المجتمع الإسلامي الذي ينطلق من أساسيات مهمة وفي مقدمتها أن الدنيا هي دار ابتلاء وليست دار نعيم، وهذا فارق كبير بين الرؤية الإسلامية وبين الرؤية المادية الحديثة.
وقال: إن المجتمع المادي الحديث يقوم على أن الهدف من العيش هو أن تستأنس في كل وقت أي أنه يقوم على نظرية المتعة، بينما المجتمع الإسلامي يقوم على غير ذلك ولهذا قال جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، والتحدي كيف أن نصنع من هذا الكبد مصارعة للحق، ولكي تنجز في هذه الحياة ما يجعلها أفضل لك في الدنيا والآخرة لآن الإسلام يقوم على نظرية التوازن بين الدنيا والآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً}، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، التوازن المستمر صعب، ويصعب مع الوقت لأن المادية تقول: (إذا أنت تستأنس بقدر ما تسحب فلوس أنت تستمتع بقدر ما تنال من الشهوات وهذه ضد النظرية الإسلامية هي النظرية البشرية الحقيقية لأن البشر يعيش حياة لا يمكن أن نختصرها في مجموعة من المتع).
وزاد الدكتور المديفر قائلاً: ولهذا الله سبحانه وتعالى كتب على الناس أن تكون الحياة فيها ابتلاءات نقل عن ابن القيم - رحمه الله -: (لا بد للإنسان من ظلم يجري عليه من غير اختياره فإما أن يصبر صبر الكرام وإلا يسهو سهو البهائم)، مشيراً إلى أن البشر جار عليهم القدر بما أراده الله سبحانه وتعالى، من سنن الخلق أن الله جل وعلا يبتلي الإنسان بالمرض، أو بوفاة قريب، أو بمصيبة مادة، أو بمصيبة دين، أو بمصيبة دنيا بأنواعها وأفكارها وبما لا يمكن أن تحصر، ويبتليه أيضاً بغير المصائب، يبتليه بشيء من التغير في حياته وقد يكون تغيراً إيجابياً لكنه يحتاج إلى التأقلم.
وأبان المحاضر أن الأزمات هي كل تغيير يحدث في حياة الإنسان يحتاج إلى نوع من التأقلم، وهي نوع من الضغوط، وقد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، لكن محور الحديث هو عن الأزمات التي هي في الغالب نوع من السلب، يعني التغير السلبي في نظام حياة الإنسان، الفهم النفسي للأزمة، أن الأزمة تحفزك إلى ماذا تفعل، الأزمة أنت الآن عايش حياتك بنظام معين فجأة تصاب بالتغير، هذا التغير يهدد نظام الحياة فإما يهدد البقاء، أو يهدد بقاء من يهمك حياته، أو يهدد نظام حياتك أنت نفسها، أو نظام أسري، أو نظام مالي، أو نظام فردي عند الإنسان فأي تغيير هو يهدد والتهديد هذا يحتاج إلى نوع من التأقلم.
وأوضح أن مفهوم التغير، والأزمة، والتوتر، والضغوط، والأزمات النفسية هو مفهوم فردي، أي أنه من الممكن أن يكون هناك عشرة أشخاص يحدث لهم موضوع واحد لكن ردود فعلهم تكون مختلفة بحسب فهمهم لهذا الحدث قال تعالى: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} ولكن الفارق أين يكمن: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} هذه المفارقة بين الناس أنك تتألم وأنت عندك معنى إيجابي للألم وللأزمة ستستطيع أن تتعامل معها بشكل مختلف تماماً عن لو نظرت إلى هذه الأزمة بشكل سلبي ولهذا يثبت الله جل وعلا الناس فمن يثبت، بأنه يحدث معنى لهذا التغير في حياته يجعله يستطيع أن يقاوم فمن أبتلي بشيء من البلاء ممكن يرى على سنة البشر أن الله جل وعلا ابتلاه وهذا البلاء هو نقص في حقه بينما الله - جل وعلا - أخبرنا أنه ليس كذلك ليس بالضرورة كذلك لأن الله قد يبتلي الإنسان بالسراء وقد يبتليه بالضراء لكن هذا الابتلاء لهذا الإنسان إذا فرغه من المعنى الحقيقي له والتي تقوم عليه فكرة المسلم عن أي شيء، إذا فرغه أصبح هذا البلاء شديد عليه جداً، ولهذا الله جل وعلا وصف الكفار بماذا: {فكَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}، كأنه مخنوق فالفرق بين المؤمن والكافر أن الكافر في عيش الدنيا يعيش في ظنك وهذا الظنك شبهه الله جل وعلا {فكَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} والمقصود هنا الكدر العام، أن الإنسان الذي يفقد معنى الإيمان في حياته هو يفرط من معاني الصبر التي تجعله يكون مستمتعاً حتى في البلاء فيكون يعيش في ظنك كأن الدنيا لا تخلو من كدر، فإذا لم يكن عند الإنسان هذا المعنى الحقيقي لها أو حتى أحياناً معنى غير حقيقي، سيكون تفاعله مع الأزمة، أو الابتلاء، أو الأزمة النفسية سيكون تفاعله ليس إيجابياً في حقه.
وأضاف قائلاً: وأيضاً تلقي الأزمات النفسية يختلف بأمرين الأول هل هي فردية، أم جماعية كل ما كانت الأزمة فردية كل ما أصبحت أكثر عبئاً، وكل ما كانت الأزمة جماعية للناس كل ما كانت أقل عبئاً، لأن الناس تتعاطف مع بعضها البعض إذاً الأزمة تختلف من حيث إنها للفرد أو للجماعة وتختلف من حيث آخر وهي أنها تتفاوت بحسب حالة الإنسان نفسه في وقتها، لهذا نقول: إن الضغوط النفسية ومواجهتها مسألة تراكمية، وهي أن رصيد الإنسان النفسي يُحمل بالتدريج، وهذه مهمة في فهم مسائل التوتر النفسي عموماً.
وبين أن الذي يحصل مع الأزمات هو تأثير على الفرد شديد جداً، وأحياناً على الجماعة يعني يحصل إجهاد نفسي، لافتاً إلى أن هناك مقاييس للضغوط النفسية ممكن أن تتنبأ من خلاله بإصابة هذا الإنسان بمرض عضوي ربما، وهذا بقدر الله - جل وعلا - خلال ستة أشهر والسبب أن مستوى التوتر عنده مرتفع، وفي نفس الوقت الأزمات النفسية تؤثر على الفاعلية فإما أن يكون الإنسان مجهداً، فصحته تنحدر قليلاً يصير عنده آلام، وضيقة صدر، وصداع، وآلام في الظهر، ويصاحب ذلك قلة وعدم فاعلية الإنسان في اتخاذ القرار، فاعليته في إدارة المال، في الحوار مع الآخرين، وقدرته على الصبر على النقاش والحوار، يؤدي ذلك بأن قدرته على حل المشكلة تنقص فهذا يضيف عبئاً شديداً له وتستمر المشكلة من عدم القدرة على مواجهتها لأنه قد يحتاج إلى مساعدة من الآخرين.
وأردف يقول: إن رد الفعل السلبي على أي أزمة نفسية هو مقبول لأن الأصل أن الإنسان يتوتر حتى يخرج من الأزمة هذه، لكن بعض الناس الأزمة تحدث شرخاً شديداً في قدراته النفسية وتستمر معه وتتحول معه إلى ما يشبه الاضطراب، وقد تكون نتيجة الضغوط النفسية، فالإنسان يمر بتجربة تعلمه شيئاً كثيراً يخرج منها أقوى نفسياً وتجد أناساً كثيرين في حياتك مروا في أزمات نفسية شديدة وخرجوا منها أقوى من قبل، أولاً لأنه قد يكون جرب ألماً شديداً جعله قادراً على أن يخرج منه بصياغة جديدة لأهداف حياته، فيعيد ترتيب بعض أوراقه وقدرته على التحمل أكثر من قبل، لهذا كلما زادت خبرات الإنسان في هذه الأمور كلما تحسنت قدرته على المقاومة والتأقلم والخروج منها بشكل إيجابي أفضل من قبل.
وواصل قائلاً: وعلى المستوى الجمعي، المجتمعات تمر بأزمات قد تكون مستمرة عندهم أو أن تكون أزمات إعادة ترتيب هذا المجتمع بحيث يستطيع أن يخرج من الأزمات المستقبلية بشكل أفضل بل بعض الباحثين يرى أن تجاوز الأزمات الجمعية تؤثر حتى فيما نسميه ب (اللاوعي الجمعي)، فالأزمات في المجتمع تحدث موقفاً جماعياً معيناً بطرق معينة في المجتمع يخرج منها مختلف تماماً، لكنها تبقى مؤثرة في اللاوعي، وهذا يؤثر في بقاء الإنسان بشكل جيد، بصحة جيدة فترة طويلة، وبعض الدراسات تقول إن الأزمات الشديدة في المجتمعات قد تؤثر في تزايد نسب الوفاة لأسباب مجهولة، أسباب غير معروفة، لأن جزءاً من بقاء الوطن والمجتمع يقوم على تعريف أسباب الوجود بالذات في المجتمع المادي الحديث.
وبين الدكتور المديفر أن الإنسان يمر عادة بأربع مراحل خلال التوتر، أو خلال مواجهة الأزمة، وإذا طولت الأزمة بدأت تقل فاعليته، الأولى يكون الإنسان متحمساً يريد أن يحل مشكلته أسبوعاً يفكر إذا ما انحلت فتقل فاعليته، ويبدأ الشد يأكل في همته وتبدأ الفاعلية تقل ثم يحصل محاولة باستنفار كل الإمكانات المحيطة به ويحاول أن يبحث عن أشخاص آخرين يساعدونه، فربما في بعض الأحيان الإنسان يحتاج أن يشاور أو يستنجد المساعدة من الآخرين في وقت مبكر بالذات إذا كان عاجزا عن اتخاذ قرار لأن مشكلة الأزمة في أولى مراحلها أن الإنسان يوشوش تفكيره، ويكون عنده ردود فعل قد تجعل التصرف بشكل غير جيد.
وتساءل كيف يتعامل الإنسان مع الأزمة، فأجاب قائلاً: كثير من الناس عنده مشكلة بين وضعه النفسي، وبين أزمة محدقة به، أو حتى أزمة مر بها وهي واضحة جداً، وإذا وصل الإنسان إلى مرحلة المصارحة بينه وبين نفسه الحل يكون بشيء من الثبات. فكلما كان الإنسان أثبت كان أقدر على المواجهة لأن بعض الناس تتجنب المواجهة، مؤكداً أن تخوف الإنسان الشديد أحيانا يكبر الموضوع ويحد من القدرة على حل المشكلة، مشدداً في الوقت ذاته على أهمية الإيمان الداخلي الحقيقي بالله في حل المشكلة أو الأزمة، وهذا ما أكدته الدراسات، أن الإيمان الداخلي لدى الإنسان يعينه على التأقلم، والقدرة على علاج المشكلة، وهذا ما نجده عند المتدينين.
وتطرق الدكتور المديفر إلى خطوات حل المشكلة، لافتاً إلى أن أولها يتمثل في الإحاطة بالمشكلة بشكل جيد، ثم وضع الحلول الممكنة لها. ثم اتخاذ قرار، ثم محاولة الحل، وقال: إن أصعب شيء في مسألة الأزمات النفسية أن يشعر الإنسان بعدم قدرته على علاج المشكلة أو الأزمة وهذا من أسوأ الحالات، مشيراً إلى أن المسلم يحتاج دائماً إلى التثبيت ويكون باللجوء إلى ما يذكر بكتاب الله جل وعلا، وإعطاء الأجر الاحتسابي أن البلاء يُرفع، (ما نزل البلاء بأحدكم حتى يمشي ما عليه من خطيئة).
وتناول الدكتور المديفر ما أسماه بالإدارة الدينية للأزمات، وقال: إنها تنطلق من المعنى أي إعطاء معنى للأزمة. والأمر الثاني اللجوء إلى الله - جل وعلا - واللجوء يتم بصورة كثيرة جداً من أهمها الدعاء، وأن تدعو الله وهو يسمعك وأن توقن في كل وقت وحين وزمان وتوقن أن الله أرحم بك من نفسك، وأن رحمة الله بالبشر أوسع بكثير من رحمتهم بأنفسهم .
الجدير بالذكر أن الدكتور خالد بن عبد العزيز الخريجي, مساعد مدير عام الإشراف التربوي بوزارة التربية والتعليم قد أدار الندوة التي حضرها حشد كبير من الأكاديميين المتخصصين في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، إلى جانب مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تم نقل مضمون المحاضرة لهم بلغة الإشارة.
وتأتي هذه المحاضرة في إطار البرامج الثقافية, والندوات واللقاءات العلمية التي دأب منتدى العُمري على تنظيمها بمشاركة مجموعة من المختصين والأكاديميين والمثقفين في عدد من الموضوعات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بهدف تسليط الضوء على بعض القضايا المهمة وكيفية التعامل معها، والتغلب على سلبياتها، وتنمية إيجابياتها.