لا نود أن نمنح أية جماعة حق مبادلة العنف بعنف آخر مضاد؛ لأن تبرير مثل هذا الفعل يدخل العالم في دوامة لا تنتهي من الفعل الآثم ورد الفعل الذي قد يفوقه إثما وجرحا ووحشية!
هذا من حيث المبدأ الأخلاقي الذي تستقيم به الحياة، وتتواصل من خلاله الحضارات، وتتبادل به الشعوب المصالح والمنافع؛
وليس من الخلط ولا من التذاكي أو التلاعب بالألفاظ ما يرميه هذا الطرف المتنازع على خصمه الآخر؛ فكل فريق يرمي خصمه بأن عدوه إرهابي، وأنه يسعى لاجتثاث الإرهاب ومقاومته! بل هو قصد ونية مبيتة للإفادة من هذا المصطلح الهلامي الرقراق الرجراج؟ وربما كان من دواعي السخرية المرة المؤلمة الجارحة ما صرحت به وزيرة الخارجية الصهيونية (ليفني) بأنها في حربها مع (حماس) إنما تقاوم (الإرهاب) وتكمل مسيرة العالم الحر في اجتثاثه والقضاء عليه!!
وفي سعي دويلة (إسرائيل) النازية الجديدة للقضاء على (حماس) الأصولية الإرهابية لا مانع أبدا من أن تقضي في طريقها على الناس كافة؛ فتبيد الشيوخ والنساء والأطفال، وتقصف الملاجئ والمدارس والطرقات، وتستهدف المنشآت ومولدات الطاقة الكهربائية، وتستخدم في كل ذلك الأسلحة المحرمة دوليا، وتقتل العوائل (كاملة) بدم بارد، وتصفي الأسرى والمعتقلين ضاربة عرض الحائط بكل القيم والقوانين والأعراف المرعية!
وهي هنا - وكما تقول وزيرة خارجيتها - تقضي على الإرهاب؟! ولو صدق العالم الآخر البعيد هذا الاستغباء الحيواني، فهل يمكن أن يصدق الناس والتاريخ المجازر الآثمة على مدى ستة عقود من الطغيان العنصري اليهودي، والاستكبار النازي على شعب أعزل؟! إننا لم نكن نسمع أبدا بمصطلح الإرهاب قبل عقدين من الزمن فهل كان الصهاينة النازيون يقاومون الإرهاب بمجازرهم الوحشية في دير ياسين أو قانا أو صبرا وشاتيلا؟!! وهل كان اليهود المغتصبون يقاومون الإرهاب حين حاصروا عرفات ودمروا مقر حكومته وسكنه، ثم أسقوه سما؟! وهل من الحق والعدل حصار شعب أعزل سنوات ثلاث لا يصل أو يتواصل مع أي مكان خارج محيط غزة الصغير لا مالا ولا طيرانا، ولا غذاء ولا تجارة ولا وقودا؟!!
هذا من الجانب الإسرائيلي الذي قام في الأساس على مبادئ ومنطلقات إجرامية تبيح له انتهاك كل المحرمات، واستحلال كل الموبقات.
لكننا نتساءل عن (إجرام) آخر يمارس تحت شعارات وعناوين خادعة، ومن خلالها تجد دويلة (إسرائيل) الحصانة والعون والمدد، وتستمد من كل ذلك عنفوان القوة وفعل ما تشاء وقتما تشاء وبالطريقة التي تشاء!
ذلك الدعم الأمريكي الظالم الذي يشعل وقود الحروب في العالم؛ وبخاصة في السنوات الثماني الأخيرة؛ حيث أوقدت ثلاثة حروب أكلت في حطامها ونيرانها ومعسكراتها وسجونها في كافة أنحاء العالم آلاف البشر، وخلقت من حيث تريد أو لا تريد حروبا ومقاومات أخرى مضادة في كل من: أفغانستان، والعراق، وفلسطين!
ولعل خير ما يفسر الانحياز الأمريكي الظالم للصهيونية المعتدية إصرار أمريكا على عدم وقف الحرب على الفلسطينيين، ووقوفها أمام إصدار قرار دولي من مجلس الأمن، وتحت إلحاح كثير من دول العالم امتنعت عن التصويت!! وتعهدت بعده أمريكا بتزويد إسرائيل بالذخيرة ومزيد من العتاد الحربي لمواصلة القتل الرخيص للمدنيين كل ساعة بطائرات الأباتشي والإف 16، والدبابات الثقيلة!
فيا فخامة الرئيس جورج بوش ماذا يمكن أن نقول لك وأنت خارج من بيتك الأبيض؟! وهل يمكن أن ينسى العالم الحر أو التاريخ الذي لا يرحم طائرات البي 52 وهي تدك أرياف أفغانستان ومصليها في شهر رمضان، أو انتهاكات حقوق الإنسان في العراق وسجون أبي غريب، أو معتقل (جوانتامو) الشهير؟!
كيف لعالم يسكن نصف الكرة الأرضية ذاق مرارة الحروب، ووحشية الغزو وعذابات السجون أن ينسى؟!
لقد أدخلت أمريكا في حالة من الخوف والذعر بسبب هذه المظالم، وقسمت العالم إلى عدو وصديق، ووضعت العثرات والعقبات في وجه التصالح الحضاري، والتواصل العلمي والاقتصادي، وأوقدت في ضمائر أجيال تخلق وسط ضوضاء وآلام واحتقانات وقهر هذه الأحداث والمظالم لتشرع من جديد في تكوين تنظيمات تتسمى بمسميات مختلفة، وتعمل تحت اتجاهات فكرية متعددة؛ فالتطرف دائما يخلق تطرفا آخر مضادا، والظلم الذي يستعبد الشعوب ويريق دماءها ويهدم إنجازاتها وينسف منشآتها ويشتت شمل أبنائها لا يمكن أبدا أن يستقبل بالورود ورقصات الاحتفاء والترحيب؛ ولم نعلم في التاريخ القديم أو الحديث أن شعبا وقع تحت نير الاعتداء والاغتصاب وانتهاك حقوقه فأعلن استسلامه وحنى رأسه ووضع يده في أيدي جلاديه!!
ولعل من أقرب الأمثلة في تاريخنا المعاصر تلك البطولات التي خلدها شعب فيتنام؛ فلم يلن ولم يخضع على الرغم من جبروت الآلة العسكرية الأمريكية، وعمليات الإبادة الجماعية للمدن وللقرى بحجة استئصال شأفة المقاومين!
وأذكركم بتاريخكم الذي وقف فيه الشعب الأمريكي ضد الهيمنة الإنجليزية حتى استقلت أمريكا. ولنا في تاريخنا العربي والإسلامي خير مثال على ذلك فقد دام الاحتلال الأوروبي الصليبي لفلسطين وكثير من مدن الشام أكثر من قرنين، ثم حررها العرب والمسلمون بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي، وكذلك فعل العرب مع غزاتهم التتر عام 656هـ حين سقطت بغداد، ثم ذلك الاستبسال العظيم ضد الاستعمار الأوروبي المتعدد الجنسيات لكثير من الدول العربية بعد سقوط الهيمنة العثمانية؛ فسجل التاريخ بطولات نادرة لمقاومة المحتل الإنجليزي والإيطالي والفرنسي في مصر وليبيا والجزائر!
إن السلام غاية سامية، وهدف نبيل، وفي سبيل الوصول إلى تلك الغاية الأممية النبيلة التي تحفظ للإنسان كرامته، وللحضارة منجزها، وللتقدم العلمي طريقه لا بد من التفكير العميق في الأسباب الحقيقية التي تولد ما تسمونه أنتم (إرهابا) ونسميه نحن (مقاومة)!
فلا أحد من العقلاء والمعتدلين في تفكيرهم البصيرين في رؤاهم يخلط بين هذين المصطلحين بالغي الحساسية والدقة؛ فالدفاع عن النفس (مقاومة) وهو ما يفعله الشعب الفلسطيني بكل فصائله؛ حيث يستهدف من الجو والبر والبحر في حرب هي في حقيقة الأمر (غزو) وحشي بشع ومتوحش؛ لأن الحرب في العرف العسكري تدور بين جيشين بينهما نسب معقولة من التكافؤ في القوة والعتاد، بينما ما يحدث في (غزة) اعتداء من دولة تملك أكثر من خمسة آلاف دبابة وثلاثة آلاف طائرة وغيرها من السلاح الفتاك على حركة مقاومة استبسلت لرد هذا الغزو الآثم!
هل يمكن أن يصدق أحد أن ما تفعله هذه المقاومة إرهاب وما تلقيه إسرائيل المعتدية من أطنان الديناميت الحارق دفاع عن النفس؟!
وهل يا ترى صدق مجلس الأمن الدولي ادعاءات إسرائيل فساوى في قراره 1860 المهزوز الضعيف الخجل بين الجلاد والضحية؛ وحرص على ضمان أمن إسرائيل أولاً، ثم عطف قليلا فعاتبها على استخدام القوة المفرط الذي أضر بالمدنيين دون قصد؟!!!
أين الإرهاب هنا يا فخامة الرئيس؟!
لقد وقفت المملكة العربية السعودية مع العالم كله لمقاومة الفكر الإرهابي الذي يريد إحراق الأخضر واليابس ووضع العالم كله في حالة لا تستقر من الاحتراب الدائم، وسعت إلى كشف أوراقه وتفنيدها ومحاصرته وتجفيف منابعه؛ لأنها كانت المستهدف الأول منه، فعانت مدنها ومؤسساتها من تفجيراته وآثامه وراح ضحيتها مئات الأبرياء من عسكريين ومدنيين!
وقد وصلنا ولله الحمد إلى نتيجة مرضية في هذا السبيل، وعرضت تجربة المملكة في مكافحة الفكر الإرهابي للإفادة منها في دول أخرى، باعتبارها تجمع بين الحكمة والشدة، والحوار والمواجهة، والعلم والعقل والقوة في آن واحد.
وبدون أن يفهم من سياق هذا المقال منح أي مقاومة غير مشروعة مسوغات ومبررات وحججا نخلص إلى القول:
فخامة الرئيس: كيف يمكن أن تنظر الأجيال الجديدة العربية والإسلامية، بل ومن دول عالمية أخرى إلى أمريكا، وهي تسعى إلى إشعال وقود الحروب، وتمنح المعتدي المسوغات، وتحجب عنه قرارات الإدانة، وتمده بما يحتاجه من مال وعتاد؟!
إن هذه المواقف تتنافى مع الوجه الحضاري والإنساني الذي تحاول أن تظهر به الثقافة الأمريكية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، وهي أسس الفكر الليبرالي والعلماني، ودعم تحرر الشعوب، ومحاربة العنصرية والاستعباد، وتمكين الديموقراطية، وحرية المعتقد؛ ولئن كسبت أمريكا والحزب إعجاب وهوى كثيرين من العرب والمسلمين - وبخاصة المثقفين منهم - فكيف تستطيع إقناع هؤلاء المعجبين بالنمط الأمريكي وأسلوب الحياة الأمريكية بأن ما تنهجه أمريكا في سياستها الخارجية يتفق مع تلك المبادئ الإنسانية والأخلاقية؟
وليس بخاف على المراقب لتحولات المشهد الثقافي والفكري العربي أن تحولا خطيرا يحدث الآن لدى الكثيرين ممن كانوا يرون (الليبرالية) الأمريكية على الأخص والغربية في الأعم هي النموذج الأكثر تحضرا وجمالا وبهاء وإشراقا إلى خيارات فكرية أخرى، منها المعتدل المقبول، ومنها المتشدد المتزمت، ولكنها في مجملها تعود إلى الأخذ من مصادر بناء المجتمع العربي والإسلامي الأول، وثقافته الأصيلة وتراثه الفكري والأخلاقي؛ ربما صدمة وإحباطا من الموقف الأمريكي الليبرالي، وربما بحثا عن الخلاص بمعطيات تجربة فكرية جديدة لم تمنح الفرصة الكاملة للتطبيق والنضج؛ وهي: التجربة الإسلامية التي شوهها التزمت والتشدد، وقدمها - مع بالغ الأسف - في صورة دامية مصادمة مصادرة منعزلة!
ولعل من دوافع ودواعي التشدد والتزمت فداحة الآلام والمآسي في المجتمع العربي والإسلامي، واستمرار مسلسل الانتهاك والتدمير والإذلال لهذه الأمة؛ ولو نحا العالم المتحضر نحوا جديدا أكثر عدالة وبصرا وإنسانية لربما خفت غوائل هذا التشدد الديني الذي يتمترس به نفر غير قليل عودة إلى الذات وخشية عليها من الفناء والذوبان واحتماء بها من غائلة الإحباط والهزيمة، ففي الدين بقيمه السامية وفي التراث بمواقفه الخالدة ما يتكئ عليه المسلم طلبا للنجاة واستمرارا للقوة وعونا على الصمود والمواجهة.
ولقد كان في حركات التحرر في العالمين العربي والإسلامي خير مثال على ذلك؛ فلم ينجح ولم يحقق فوزا على المعتدي المحتل إلا تلك الحركات التي انبثقت من تراث هذه الأمة وقيمها ومعطياتها الروحية بدءا من عبدالقادر الجزائري، وعمر المختار، وعبدالكريم الخطابي، وأحمد ياسين ومحمود الزهار وياسر عرفات وغيرهم من المناضلين والأحرار.
وإذا كانت أمريكا في عهدها الجديد - بعد سنواتكم العجاف المرة والدموية فخامة الرئيس - تريد الاستقرار والنمو والازدهار لها وللعالم، ومحاربة التطرف والإرهاب، والقضاء على التوتر وبؤر الاشتعال المنتظرة؛ فإنها ليس لها خيار في مراجعة سياسة الحقبة الماضية السوداء، والتخلي عن الأسلوب الدموي في المواجهة، والنظر إلى قضايا الشعوب من منطلقات ورؤى حضارية وأخلاقية سامية ومصالح متبادلة، بعيدا عن استعلاء القوة، واستكبار الهيمنة؛ فلن يستقر هذا العالم إلا بالعدل، ولن ينعم إلا بالحرية، ولن يتقدم إلا بإرساء قيم المحبة والإخاء والعطف وحقوق الإنسان.
وإلا فلن يكون استقرار ونماء ورخاء وتقدم وشعوب تضطهد، ودماء تراق، وحقوق تسلب، واعتداء يشرع له، واغتصاب يمنح صكوك التملك، وأرواح تزهق ولا يبالى بها أو يسأل عنها القاتل المجرم: لم قتلت؟!
فخامة الرئيس: قبل أن ترحل نقدم لك خالص عزائنا وعظيم مواساتنا وأليم مشاعرنا في مصابكم الجلل حيث عاش البيت الأبيض في الأسبوع الماضي تحت وطأة أسى ممض وألم نفسي موجع لموت القطة (ويلي).
عظم الله أجركم!! ولا عزاء لشعب غزة الذي تسيل دماء أطفاله أنهارا!!
أيها العقل من رآك؟!!
أيها الضمير المستتر أين أنت؟!!
أيها العالم الحر المتحضر أين أنت؟!!
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
كلية اللغة العربية- باحث وكاتب
ksa-70007@hotmail.com