يقول وزير العمل الدكتور غازي القصيبي في لقاء له مع مديري مكاتب العمل في الرياض الأسبوع الماضي: (لا توجد وظيفة شريفة وأخرى غير شريفة). وأضاف: (لا أعرف تقسيما طبقا لذلك، فالوظيفة غير الشريفة هي التي ينفر منها الشرع والأخلاق الحميدة؛ وغير ذلك لا توجد وظائف وضيعة، ولا وظائف دنيا؛ كله رزق حلال، وكل إنسان يأخذ منه بالقدر الذي أتاحه له تدريبه ومهاراته وحرص أبويه على تعليمه).
ويبدو أن الدكتور غازي كان يرد على أحد قضاة التمييز لدينا، الذي أكد في لقاء صحفي معه قبل فترة أن قبول شهادة الشاهد أو رفضها تخضع شرعا لاعتبارات، منها ألا يكون الشاهد يمتهن مهنة (مستقذرة)، ومثَّلَ هذا القاضي على هذه المهن بالقول: (إذا كان موظف صرف صحي وينزل إلى الميدان وكان المشهود له (أعلى رتبة) في المجتمع فإنه يحق للمشهود عليه الطعن في الشهادة وطعنه معتبر). (جريدة الوطن الجمعة 14 شعبان 1429هـ العدد 2877).
القاضي بقوله هذا لم يخرج عن نصوص واجتهادات الفقهاء الأولين (الحرفية)، وما ورد في كتب الفقه الموروثة. غير أن الذي فات هذا القاضي أن الاتباع كان يجب ألا يكون اتباعا حرفيا، يقتفي النتيجة ويغفل (القاعدة الفقهية) التي أفرزت هذه الأحكام. القاعدة الفقهية المرعية هنا عند علماء الأصول تقول: (المعروف عرفا كالمشروط شرعا)، وشروط عدالة الشاهد على هذا النحو أمر يتعلق بأعراف الناس وتقاليدهم، وهي تتغير بتغير الزمان والمكان وليست ثابتا لا يتغير؛ تغير الأعراف قاعدة معتبرة شرعا، وواقعا في حياة الناس، وأقرها الفقهاء كقاعدة فقهية لاستنتاج الأحكام؛ أي أن تغير العلة يقتضي تغير الحكم، الأمر الذي يجعل اتباع أقوال فقهاء السلف في أمور متغيرة هو اتباع مع وجود الفارق، أما الفارق فتغير عادات الناس في الماضي عن عاداتهم الآن.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فقد صدر - أيضا - مؤخرا حكم قضائي بصحة زواج طفلة (ثمان سنوات) من كهل خمسيني، زوجها والدها منه على اعتبار أنه وليها، ورفضت الأم العقد، فأقر القاضي الزواج، وأجل (الدخلة) إلى أن تبلغ الطفلة، ولها بعد ذلك أن تطالب بالطلاق. العبرة هنا بالأعراف، فما كان مقبولا (عرفا) في الماضي أصبح مرفوضا عرفا في الحاضر. والمملكة من ضمن الدول التي وافقت على (اتفاقية الموافقة على الزواج، والسن الدنيا للزواج، وتسجيل عقود الزواج)، بحكم عضويتها في الأمم المتحدة التي أصدرت واعتمدت هذه الاتفاقية. قبول المملكة لهذه الاتفاقية هو بمثابة الأعراف المستجدة التي يجب مراعاتها قضائيا على اعتبار أنها أعراف مستجدة.
أما القياس بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ست سنوات، فهو قياس مع وجود الفارق؛ فما كان عادة (معتبرة) في الماضي ليس بالضرورة أن يكون عادة مقبولة في الحاضر.
كل ما أريد أن أقوله هنا إن الأحكام المبنية على الأعراف والعادات والتقاليد في الشريعة، كما في الحالات التي ذكرتها آنفا، يجب أن تراعي تغير أعراف المجتمع؛ لأن العرف هو (المعيار) الذي أنتجها في البداية، وتغيرها مرتبط بتغير هذه الأعراف.
إلى اللقاء.