حتماً طبيعة العلاقات الاجتماعية في مجتمعنا المحلي خلال العشر سنوات الأخيرة تغيرت واختلفت بل انتقلت إلى صيغ جديدة وغير معهودة, وتنازلت عن نمطيتها القديمة التي كانت تقوم على الارتباط بصلات منتظمة بصورة دورية أو مناسباتية تحتمها علاقات اجتماعية تلبي حاجة انتماء الفرد إلى جماعة يستطيع من خلالها تفسير مظاهر العالم من حوله.
وحتماً سنتألم حينما نكتشف أن مجالسنا الخارجية لم يدخلها زوار لأيام عديدة دون أن نشعر بهذا أو نبالي به، على حين أن العالم برمته اختار أن يزورنا في مجالس أخرى وعبر منافذ مختلفة، فإذا كان التلفاز مغلقاً في غرفة المعيشة فإننا حتماً سنشعر بوحشة، وكأننا في كهف مهجور، فنهرع لإشعاله ليكفكف حاجتنا إلى التواصل الإنساني والاجتماعي عبر هدير شاشته، وثرثرة مذيعيه وأخباره، وقصصهم الوثائقية، وبهجته الدرامية.
وعندما تحاصرنا الكوابيس نهرع صباحاً إلى التلفاز لنعرف الرقم الذي وصل له عدد الشهداء في جنازة غزة المهيبة، ونتابع المقاطع والصور والمجازر والدماء لنشهق ونكفكف دموع العجز والحسرة مع ولولة الأمهات فنظن بأننا قمنا بواجباتنا تجاههم، نستمع إلى التحليل السياسي الملجم بعقلانية يتطلبها الظرف السياسي في قناة عربية ومن ثم نقارنه مع طروحات قناة أخرى مقابلة مليئة بالحدة والانفعال وخطب التخوين والشتائم السياسية.
وإذا أردنا أن نرمم غموض الأحداث ونسد الثغرات الناقصة سنتسلل إلى الشبكة العنكبوتية، حيث لا محسوبيات وتمرد على موضوعية الخبر والتحليل، تندفق الكلمات والآراء والتعليقات غابة متشابكة تهدر بجميع الذي لم يُقَل والمسكوت عنه والمقصى عن الدماثة والرصانة.
وبين هاتين الشاشتين سنتقافز فوق صفحات الجرائد ننزلق فوق أخبارها على عجل، ونختار ما نظنه شيقاً أو على الأقل منطقياً من مقالات وتحليلات، وقد نمسح بأعيننا الإعلانات المغرية.
آخر النهار سنشعر بتخمة ثقيلة من الحضور الطاغي للآخرين في مساحات يومنا، لكننا فجأة نكتشف أنه حضور مخادع سرابي، عالم محتمل أو افتراضي، يلبي حاجتنا للآخر عبر حقيقة مفترضة موازية للواقع، فيشعرنا بأننا في قلب الحدث تلسعنا سخونته وهدير انفجاراته في آذاننا. عالم عجيب، موائم للواقع، لكنه من ضوء وصوت، حين يغيب أو يتلاشى نكتشف فجأة أننا مقولبون بداخل غرف الأسمنت طوال الوقت، بينما مجالسنا الخارجية خاوية موحشة لم يمر بها دفء الزوار ورائحة الهيل في قهوتهم لأيام مديدة.