حكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوما عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك، فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نُبل وأدب، فتشوق أبو الحسن ابن جودي لمعرفته، وكان إذ ذاك فتيّ السن، فقال له: من أنت أكرمك الله تعالى؟ فقال: هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدبا ولي توقيرا، فقال ابن جودي: قد سألت عن المعرف عنك فلم يعرفك، فقال: يا هذا، لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل، ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل وأطرق ساعة ثم رفع رأسه.
ففطن ابن جودي أنه من بني مروان: فقام وقبل رأسه، واعتذر إليه، ثم انصرف المرواني، فقال ابن باجة لابن جودي، أساء أدبك بعدما عهدت منك؟ كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالاصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه؟ فاحذر أن تكون لك عادة، فإنها من سوء الأدب. فقال ابن جودي: لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام: نأخذ من ماله ومن أدبه.
وكان بكار المرواني يقطن في مدينة أشبونة إحدى مدن الأندلس وذكر صاحب السقط: إنه ذهب إليه ونقر بابه فنادى: من هذا؟ فقلت: رجل ممن يتوسل لرؤيتك بقرابة، فقال: لا قرابة إلا بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلا فتنحَّ عني، فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه فإذا به في مُصلاة وسبحة أمامه، وهو يعد حبوبها ويسبح فيها، فقال لي: ارفق علي حتى أتمم وظيفي من هذا التسبيح، وأقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ، فلما قضى شغله عطف علي وقال: ما القرابة التي بيني وبينك؟ فانتسبت له، فعرف أبي وترحم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت مما كان لديه شيء؟ فقلت له: إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلم الأدب، وقد تعلقت من ذلك بما أتميز به. فقال لي: هل تنظم شيئاً؟ قلت: نعم، وقد ألجأني الدهر إلى أن أرتزق به. فقال: يا ولدي إنه بئس ما يُرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة) ولكن تحل الميتة عند الضرورة، فأنشدني أصلحك الله تعالى مما على دُكرك من شعرك، قال: فطلبت بخاطري شيئا أقابله به مما يوافق حاله فما وقع لي إلا فيما لا يوافقه من مُجون.
(وسوف لن استطرد في ذكر ما دار بينهما من شعر آثرتُ ألا أذكره في هذا المقال تعففاً).
قال: فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب ثم أفاق وقال: أعد بحق آبائك الكرام، فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده، فقلت له: لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إياه، فقال: وهل حرك مني إلا خيرا وعظة؟ يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت، وهي مستعدة لهبوب الرياح، فإن هبّ عليها أقل ريح لعب بها كيف شاء، وصادف منها طوعه، فأعجبني منزعه، وتأنست به، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانجماع والانكماش، بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره، فلما كثر تأنسي به أهويت إلى يده كي أقبلها، فضمها بسرعة، وقال: ما شأنك؟ فقلت: راغباً لك في أن تنشدني شيئاً من نظمك، فقال: أما نظمي من زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأما نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته، فيأخذ كلانا بحظه، فضحك وقال: ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد.
قال: فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغُلبَ على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلا بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك، والله مرشدك ومنقذك، ثم قال لي: يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع فيما مضى والله ولي المغفرة، وإنا لنرجو منه غفران الفعل.
قال: فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له: لم أر أحسن من نظمك في جد ولا هزل، ثم قلت له: أأرويه عنك؟ فقال: نعم، ما أرى به بأسا بعد اطلاع من يعلم السرائر، على ما في الضمائر، فما قدر له هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر، ويغضي عن العظائم؟
قال: فقلت له: فإن أسبغت علي النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدهر، فقال: يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثم قال: ولا أجمع عليك رد قول ومنعا، ثم قال: حسبك وإن كلفتني زيادة فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم، فبالله إلا ما زدتني وأكببت لأقبل رجليه، فضمهما.
وقال صاحب السقط: فملأ سمعي عجائب، وبسط أذني، وكتبت كل ما أنشدني، ثم قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل استدعي منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشد. فقال: إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت. وأنشدتك، فما عندي مما أضيفك غير ما سمعت. وما تراه. ثم قام وجاء من بيت آخر في داره بصحفة فيها حساء من دقيق وكسور باردة، فجعل يفت فيها. ثم أشار إليّ أن أشرب فشربت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها ثم قال لي: هذا غذاء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها. قال: فقلت له: يا عم، ومن أين عيشك؟ فقال: يا بني عيشي بتلك الشبكة اصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد فيه معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير، جعلنا الله تعالى ممن يلقاه على حالة يرضاها. وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة. قال فتركته وقمت في نيتي أن أعود إلى زيارته، ونويت أن يكون ذلك بعد أيام خوف التثقيل. فعدت إليه بعد ثلاثة أيام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن، وقالت: إن الشيخ خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله الجنون، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: أريد أن أموت شهيداً في الغزو، وهؤلاء جيران لي قد عزموا على الغزو، وأنا إن شاء الله تعالى ماض معهم، ثم احتال في سيف ورمح وتوجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتص منها فأقتلها؟ قال: فقلت لها: من خلف للنظر في شأنكم؟ فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلفنا له لا نحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً، فقلت: إني قريبه، ويجب عليّ أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: يا هذا إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر ومن يبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا، فجزاك الله تعالى عنا خيرا، انصرف عنا مشكورا، فقلت لها، هذه دراهم خذوها تستعينوا بها، فقالت: ما اعتدنا أن نأخذ شيئا من غير الله تعالى، وما كان لنا أن نُخل بالعادة فانصرفت نادما على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه، ثم عدت بعد ذلك لداره سائلا عنه، فقالت لي المرأة: إنه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قد قُتل، فقلت لها: أقُتل؟ فقرأت {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ - الآية}فانصرفت معتبراً من حاله، رحمه الله تعالى ورضي الله عنه ونفعنا به.