ثم تحدث عن الكعبة وكسوتها، منذ عهد نبي الله إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام، وأنه لم يرد نص صريح يفيد أن إبراهيم عليه السلام كسا الكعبة، ولعل السبب أنه تلقى أمر ربه بالبناء، فاقتصر عليه فقط، أو لأنه غادر مكة مباشرة، بعد أن أتم البناء، فلم يتسن له كسوة الكعبة، وقد يرجع الأمر إلى عدم توفر الجلد أو الخصف أو القماش.
وبعد رحيل إبراهيم، تولى إسماعيل سدانة الكعبة، وشؤونها بعد أبيه، وتعددت الروايات التاريخية، حول أول من كسا الكعبة، وأورد روايات عن العسقلاني، في فتح الباري بقوله: حصلنا في أول من كسا الكعبة، مطلقاً على ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان بن أدّ، وتبّع، ولكنه قال: لا نثبت ولا ننفي، لكنه لا يستبعد أن إسماعيل عليه إسلام قد كساها.
ثم تحدث عن أعمال الكسوة بعد تبع، وأن على الكعبة أكسية متعددة، بعضها فوق بعض.. وفي ص168 تصوير لنوع من جلود الحيوانات تسمى الأنطاع، كانت تكسى بها الكعبة المشرفة بعد دباغتها.
وفي ص172- 173 أنواع من الأكسية، التي تكسى بها الكعبة: الخصف وهو ما يسمى الحصير من سعف النخيل، والجلود المدبوغة، والأقمشة الشبيهة بالأردية، التي يتزر بها الرجال في جنوب المملكة اليوم، وفي اليمن، وتسمى برد وقد تحدث عن نوع الكساء بعد تبع، وأنها تكسى بما يتيسر، وتجعل فوق بعضها، السابق هو الأسفل، واللاحق هو الأعلى، ولا تنزع حتى تبلى. ص(171).
وذكر أن الوجهاء والأثرياء رجالاً ونساء، يتبارون في كسوتها، وأول من كساها بالديباج: خالد بن جعفر بن كلاب، وقيل: نتيلة بنت حباب، زوج عبدالمطلب، جدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من يكسو الكعبة، ما هو إلا متبرع، أو متبرعة، ويرون ذلك شرفاً ومكانة، ولا يوجد جهة ترعى ذلك.
وفي ص176 تحدث عن الكسوة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، وقال في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، في قول: سعد بن عبادة، اليوم يوم الملحمة، واليوم تستحل الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة). ثم قال: فمن المتوقع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كسا الكعبة، أو أمر بكسوتها.
وتحدث عن أعمال الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود في الكعبة، فصور الباب الذهبي، الذي اعتنى به الملك خالد، وتجميله بآيات كريمات، مع الاهتمام بالزخارف والزينات، وقد كتب على مصراع الباب الأيمن بالذهب عبارة: صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين خالد بن عبدالعزيز آل سعود، في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنه 1399هـ، وفي المصراع الأيسر اسم الصانع، والمصمم وواضع الخط.
ففي ص140 وما بعدها: أعمال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد في الكعبة المشرفة، فمع أكبر توسعة وعمارة للمسجد الحرام، كما أولى الكعبة المشرفة كل عناية واهتمام وقد أسهب في الوصف للأعمال التي أمر بها الملك فهد، من حيث الترميم الشامل للكعبة المشرفة واستجلاب أخشاب (التيك.. الساج) لسقف الكعبة وأعمدتها، حيث كانت هذه الأخشاب، الأجود عالمياً، بعد بحث واستقصاء ودراسة، وعمق في الاختيار، مع الغلاء الفاحش في الثمن، الذي دخل خانة الملايين للواحدة، بل أولى عنايته ومتابعته -رحمه الله- اهتماماً كبيراً بكل ما يتعلق بالكعبة: من ترميم وإصلاح وكسوة.
ولخص تلك الأعمال في الترميم الجبارة بثلاثة أقسام: الأول: داخل الكعبة، والثاني سقف الكعبة والأعمدة والثالث خارج الكعبة.. وذلك بتغيير الشاذروان، وهو محيط أسفل الكعبة البارز، والميزاب ورخام حجر إسماعيل. كل هذا في ترميم شامل للكعبة لما بأن بالدراسة أهمية ذلك، فأصدر أمرا بذلك في عام 1417هـ - 1996م.
كما أذن الملك فهد, في الأسابيع الثلاثة من بدء العمل لكافة الناس، لدخول الكعبة، ليعيشوا لحظات روحية، مع الله داخل بيته، كما قال.. وليكونوا شهود عيان، يصفون للناس ما بداخل الكعبة من شقوق ظاهرة. ثم امتد في حديثه إلى الإصلاحات في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وعنايته بالكعبة المشرفة، وصلاته مع ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية، ودول منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة ودخولهم الكعبة في شهر ذي الحجة عام 1426هـ الموافق ديسمبر 2005م.
ثم مر في وصفه لستارة الكعبة، وموكب المحمل المصري، ومسيرته من مصر إلى مكة المكرمة، وهيمنته وكسوته ونظامه، وموظفوه، وتكاليفه وأميره ومعاونوه والتفاخر به، والتنافس، حتى أنه ذكر عن المحامل التي كانت تغدو إلى مكة ستة هي:
1- المحمل المصري، 2- المحمل الشامي، 3- المحمل العراقي، 4- المحمل العثماني، 5- المحمل اليمني، 6- المحمل المغربي. هذه هي المحامل المشهورة كما نوه عن محامل أخرى تنسب لأشخاص مثل: 7- محمل ابن الرشيد، 8- محمل ابن سعود، 9- محمل نظام الملك بحيدر أباد، 10- المحمل المملوكي، وقد استوحى وصف هذه الأشياء، إلى تاريخ توقفها تدريجياً في العهد السعودي الثالث لأنها أحدثت ولم يكن لها وجود أو ذكر في العصور الأولى من مسيرة الإسلام. وإنما هي مجال للتفاخر، تذهب روحانية الحج وبساطته، واستحوذ في الحديث والتعريف، أو الوصف والصور والزخارف، على عدة صفحت، مع الرسوم والأشكال (ص 309 - 334).
ولما كانت كسوة الكعبة، في العصور الأولى لم يكن لها هيئة مخصصة ترعاها وتنفق عليها، فقد كانت تتنقل بين الأفراد ومحبي الكعبة والخير إلى أن بدأت في العصور المتأخرة ترعاها دول.. دخلت فيها الأثرة، وحب التسلط والمزايدات، لذا نراه يخصص الفصل الثامن من ص335 لكسوة الكعبة في العصر السعودي، حيث بدأ في دخول الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- مكة المكرمة مُحرماً ليلة الجمعة جمادى الأولى عام 1343هـ- 5 ديسمبر 1924م، وبث نداء لجميع المسلمين يعلمهم أن الحالة الأمنية مستقرة ورحب بقدومهم لأداء فريضة الحج، وأخبرهم أن جميع الأمور ميسرة من سنابك ومساكن ورواحل من الموانئ: القنفذة والليث ورابغ، لأن جدة لا تزال محاصرة، وطمأنهم عن استتباب الأمن، ومسالك الطرق.
لكنه لم يذكر كسوة الإمام سعود بن عبدالعزيز عام 1222هـ- 1807م، عندما حج حجته الثالثة -رحمه الله- التي ذكرها ابن بشر: وكسا الكعبة كسوة فاخرة من القز الأحمر، ثم كساه بعد ذلك بالقيلان الفاخر، وفي عام 1223هـ- 1808م كسا الكعبة المشرفة بالقيلان الأسود، وجعل إزارها وكسوة بابها من الحرير المطرز بالذهب والفضة (عنوان المجد: 295، 297).
وفي عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي انتقل في الفصل الثامن ص335، بعد إيراده رسماً جميلاً لواجهة كسوة الكعبة الداخلية من الحرير الأحمر مكتوب في طرفها: صنع بمكة المكرمة عام 1356هـ، وقبلها في عام 1354هـ- 1935م ص347 أورد رسماً لواجهة كسوة الكعبة الداخلية من الحرير الأحمر، وكتابتها وزخارفها من الحرير الأبيض، صنعت في الهند، حيث كسيت بها الكعبة المشرفة سنة 1355هـ- 1926م، في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله-.
ثم تأسست دار الكسوة والصناعة الوطنية التي صنع بها كسوة الكعبة في عام 1356- 1937م في عهد الملك عبدالعزيز الذي اهتم كثيراً بكسوة الكعبة، كما اهتم بها أجداده من قبل.. واهتم بنوه من بعده بالكعبة وحرم الله توسعة وبناء. وفي عهد الملك سعود، كانت ترد الكسوة من مصر حتى عام 1381هـ- 1962م عندما أعيدت الكسوة من ميناء جدة فأمر على وزير الحج والأوقاف في ذلك الوقت بسرعة تجهيز الكسوة فتم ذلك الوقت، وسط احتفاء كبير حضره كبار المسلمين، ثم أمر الملك سعود بتجهيز مصنع للكسوة، بإشراف ولي العهد فيصل ذلك الوقت، واتسعت إمكانيات المصنع في عهد الملك فيصل بمقره بجرول عام 1387هـ- 1968م. ذلك أن الحلم السعودي، نفد صبره، بعدما دخلت الأهواء من عام 1343هـ- 1924م، حيث أنشأ الملك عبدالعزيز، داراً لكسوة الكعبة.. وما زال التطور في الكسوة ومصانعها، حيث تطور وتوسع المصنع في عام 1417هـ وزود بآلات وأقسام وفنيين، وفي مبنى كبير بطاقم كبير وعلى أعلى المستويات.. والمصنع الأخير يحتاج إلى حديث مستقل. وفق الله المسؤولين الحريصين على خدمة بيت الله لكل خير وأعانهم عليه.
أخبار مكة عند الفاكهي:
أورد كتاباً من أبي الحسن البصري، في فضل مكة إلى رجل من أهل الزهادة، يقال له: عبدالله بن آدم، وكان مجاوراً بمكة, وكان موسراً، ولم يكن له عمل بمكة إلا العبادة، وأراد الخروج منها، فبلغ ذلك الحسن، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله يا أخي، بحفظ الإيمان، ووقاك المكروه، ووفقك للخيرات، وأتم عليك النعمة وجمعنا وإياك في جوار الرحمن، ومنازل الرضوان، أما بعد:
فإني كتبت إليك، وأنا ومن قبلي من الأقارب والإخوان، على أفضل الأحوال، وربنا محمود لا شريك له، وصلى الله على النبي، وعلى آله الطيبين وسلم تسليما، قد انتهى إليّ أنك قد أزمعت الشخوص من حرم الله، والتحول منه إلى اليمن، في سبب رجل من أهلها، وإني والله كرهتُ ذلك وغمني، واستوحشت لذلك وحشة شديدة، وتعجبت، منك إذ أطعت في ذلك الشيطان، فإياك يا أخي ثم إياك أن تبرح منها، فإن المقام بها سعادة، والخروج منها شقاوة، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك للخيرات فإنه المنان، ولا قوة إلا بالله، ثم إياك يا أخي والظعن منها، فإنك في خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، وأفضلها وأعظمها حرمة، وإن الله عزَّ وجلَّ فضل مكة على جميع البلدان، وأنزل ذكرها في الكتاب العزيز، فكان فيما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذكرها قوله تعالى: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} (97) سورة المائدة. ثم أورد آيات في فضل مكة، وقال: هؤلاء الآيات أنزلها الله في مكة خاصة، لأنه لم ينزل في بلد سواها، ثم جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخرجوه من مكة، أنه وقف على الحزورة، فقال: إني لأعلم أنك خير أرض الله، وأحبها إلى الله، يعني مكة، ثم قال:
وروي أن الأرض رحبت منها، وأن أول من طاف بالبيت الملائكة، قبل آدم عليه السلام، بألفي عام، وأنه لم يكن يهرب نبي من قومه، إلا هرب إلى الكعبة، فعبدالله فيها حتى يموت، وسمعنا أن حول الكعبة قبور (300) نبي، وأن قبر نوح وهود وشعيب وصالح عليهم السلام فيما بين الملتزم والمقام، وأن ما بين الركن الأسود، إلى الركن اليماني قبور سبعين نبياً، ثم ما أعلم عن بلدة ضرب إليها جميع الأنبياء والمرسلين خاصة ما ضرب إلى مكة، وما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة، ترفع فيها الحسنات، وأنواع البر، لكل واحدة، مائة ألف، ما يرفع منها، ثم لا أعلم بلدة يجد فيها من الأعوان على الخير بالليل والنهار ما يجد فيها. (أخبار مكة في قديم الزمان وحديثه للفاكهيّ2: 288-291).