لم يكن غريباً استخدام الولايات المتحدة الأمريكية - وهي تمر بموجة استعلاء عارمة، ونزعة استبدادية طغت شرقاً وغرباً -، حق النقض (الفيتو)، وامتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والداعي إلى وقف إطلاق النار في غزة، والذي كان محل مقت الدول الكبرى، كما كان محل استهجان الدول العربية والإسلامية بإدانة العدوان.؛ فلطالما وقفت أمريكا إلى جانب العدو الإسرائيلي، وأطلقت يديها لارتكاب المجازر البشعة في أرض غزة، ولو كان ذلك على حساب الأخلاق والقوانين المعتبرة، ما دام يخدم مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية ليس إلا؛ مما جعل (هنتنجتون) - صاحب كتاب (نظرية صراع الحضارات) -، يصف تلك العلاقة الأمريكية - الإسرائيلية بأنها: (ستحول أمريكا مع الوقت إلى دولة وحيدة تعاني من العزلة الدولية، حتى لو تملكت ترسانة عسكرية ضخمة، ووزعت إعاناتها هنا وهناك.؛ فستظل قوة مكروهة، بل ستتحول إلى دولة شريرة كما تصف غيرها). هذه السياسة المقيتة، هي التي جعلت ممثل الصين يقف قبل سنوات في مجلس الأمن الدولي واصفاً الضغوط الأمريكية على المجلس، بقوله: (إن أمريكا تتعامل مع مجلس الأمن بالحذاء).
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية حاولت تبرير جرائم إسرائيل، من خلال ازدواجية وانتقائية المعايير، وكأن الدم والألم اليهودي مقدس، والدم والألم الفلسطيني غير مقدس، إلا أن هناك شبه إجماع على خطورة الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة من المعاناة والشدة والتضييق، والتي تدعو للخجل، وهو ما أكده منسق الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية في الأراضي الفلسطينية (ماكس جايلارد)، من أن: (الوضع في قطاع غزة بات وضعاً طارئاً خطيراً)، كما أكدته ممثلة برنامج الأغذية العالمي في غزة (كريستين فان نيووينهويز)، في بيان: (إن الوضع الحالي في غزة مريع). وجاء في بيان لمنظمة (أوكسفام) الفرنسية: (إن المنظمة ترفض تصريحات وزيرة الخارجية الإسرائيلية، والتي ذكرت أنه: ليست هناك أزمة إنسانية في غزة). وقالت المنظمة: (إن الأزمة الإنسانية تتفاقم كل يوم في غزة). وحيثما كان الحديث عن تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان في غزة فيمكن اعتبارها جرائم حرب، تترتب عليها مسؤولية جرمية شخصية؛ مما يستلزم إرسال لجنة تحقيق دولية لتوثيق الجرائم، ورصد الانتهاكات الإسرائيلية، وتحديد المسؤوليات في تلك الجرائم.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو ملك للبشرية جمعاء، وهي مطالبهم التي لا يمكن التفاوض حولها. ويتولى ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مهمة الحفاظ على السلام والأمن الدولي، بل قد جاء في مقدمة ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ما يلي: (نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، والتي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار).
تبدو الصورة مظلمة قاتمة؛ فامتداد هذه الاعتداءات وشراستها دليل واضح على بث سموم وحقد القوم على الإسلام والمسلمين، في حرب بدأت في أفغانستان والعراق، مروراً بغزة، ولا نعرف نهايتها؛ مما شهد تنامي مشاعر العداء لليهود وحاميتها أمريكا، بسبب تلك السياسات الرعناء والمحركة لهذه المشاعر؛ فالمعادلة أصبحت أكثر تعقيداً؛ لأن أمريكا خاضت المعركة ضد الأمة تحت شعارات عقائدية، وبشكل سافر.
ولمَن لا يعلم فإن هناك تصاعداً لموجات التظاهرات في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم كله، التي ترى أن أمريكا لا تزال تسير على درب الهاوية بخروجها عن كل قيم العدل في التعامل مع الدول والشعوب الإنسانية، وترى أن العدوان قد تجاوز كل المقاييس الإنسانية بأبشع ألوان الجبروت والطغيان؛ من ذبح الفلسطينيين وتدمير بنيتهم التحتية وتوعدهم بالتهجير. ولا يسع أي مراقب منصف إلا أن يتساءل عن الجريمة التي تستدعي كل هذا العقاب الأليم والبالغ التكاليف!
على أي حال.. إذا كان هذا العرض قد حمل الكثير من التشاؤم والرؤية المظلمة القاتمة في زمن تختلط فيه الأوراق عندما يصاب العالم بالصمم، ولكن تتمايز ميادين الصراع، فإن أفضل الخيارات السيئة المتاحة، هو التأكيد على استهجان تلك المخططات وفضحها ومواجهتها بعناية؛ لأن إدراكنا لهذه الأهداف هو جزء من تشكيل الموقف السياسي لمواجهته، واختيار الأسلوب الأنسب للتعامل معه. وما لم يتشكل قطب دولي ثان منافس لأمريكا؛ فإن الصلف الأمريكي سيتضاعف من أجل تمرير مخطط الشرق الأوسط الجديد، وتفتيت المتبقي من فلسطين إلى كيانين؛ فهل من مدكر؟
drsasq@gmail.com