الأحداث الدامية في غزة العزة بسبب إجرام دولة الاحتلال الصهيوني أفرزت مواقف متباينة الرأي ومتعارضة الاتجاه أيضا على صعيد الأنظمة السياسية في العالم، فكما كان متوقعاً بالنسبة للموقف الأمريكي الذي جاء (منحازاً) لإسرائيل في جريمتها، والموقف الأوروبي الذي بدا (متواطئاً) مع العدوان، والموقف الأممي الذي ظهر (متخاذلاً) كالعادة مع القضايا العربية والإسلامية، وكذلك الموقف العربي الذي أصابه (العجز) عن إيقاف المذبحة رغم الجهد السعودي الكبير في مجلس الأمن بالتنسيق مع جامعة الدول العربية الذي أنتج القرار 1860 القاضي بوقف العدوان الإسرائيلي إلا أن هناك مواقف أخرى تبدو مغايرة للغاية لأنها أكثر حزماً وشجاعة في الوقوف السياسي ضد الهمجية الصهيونية، تجلت في موقفي جمهورية تركيا (الجارة) المسلمة، وجمهورية فنزويلا (الصديقة) المسيحية.
موقف تركيا جسّده رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي لم يعلق موقف بلاده بشماعة مراعاة العلاقات الغربية، أو يجعله رهينة لعضوية حلف (النيتو) أو يجعل العلاقات التركية الإسرائيلية مرجعاً لمواقف تركيا الحضارية في قضايا أمته المصيرية، لهذا كان واضحاً في تصاريحه بتحميل إسرائيل كامل المسؤولية في هذا العدوان الدموي لأنها هي التي خرقت الهدنة، بل قال في خطابه القوي في مجلس النواب التركي الذي طارت به وسائل الإعلام لكل الدنيا: (إن كنت سأتعاطف مع طرف فإنني سأتعاطف مع أهالي غزة)، ثم أشار إلى التاريخ مخاطباً يهود إسرائيل بقوله: (عندما تعرض آباؤكم للضرب والطرد نحن من آويناهم وساعدناهم.. أنا أتحدث بصفتي زعيماً لأحفاد تلك الدولة العثمانية)، وهنا يشير أردوغان إلى أن اليهود عندما تم طردهم من الأندلس (إسبانيا حالياً) عام 1492م، قاموا بإرسال وفد منهم إلى السيدة روكسلان زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، وهي من يهود القرم تدعى (خرم) أي الباسمة، طالبين منها التوسط لدى السلطان لقبولهم في دولته مترامية الأطراف، فسمح لهم ما عدا فلسطين، فتوزعوا في مصر والعراق وإيران واليمن وتركيا (يهود الدونمة). هذه الإشارة التاريخية لها معنى سياسي ذكي بأنكم دولة احتلال، ولأن رئيس الوزراء التركي أردوغان هو رجل سياسي في المقام الأول فقد أشار إلى مسألة سياسية في قضية العدوان على غزة عندما خاطب باراك وليفني بقوله: (اتركوا عنكم حسابات الدعايات الانتخابية)، وهو هنا يرد على القادة الإسرائيليين وعلى العرب أيضا الذين حملوا المقاومة سبب العدوان خاصة ًأنه صرح بوضوح أن إسرائيل هي من خرق الهدنة وأفشل التهدئة. هذا الموقف التركي الشجاع لا يمكن مقارنته بالموقف العربي الرسمي.
أما فنزويلا فهي لا تختلف في شجاعة موقفها السياسي وبعدها الإنساني عن تركيا، حتى أنك تشك وهي (أمريكية) القارة (لاتينية) الشعب (مسيحية) الديانة، أنها قد (أسلمت) فالتصقت بقضايا أمتها، أو أنها أكثر (عروبة ً) من تلك الدول العربية خائرة القوى أمام الهجمة الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية، وذلك بإقدامها على طرد السفير الإسرائيلي وتخفيض التمثيل الدبلوماسي فلا تدري ما الذي يدفع دولة تبعد آلاف الكيلومترات عن الأراضي الفلسطينية على اتخاذ هذا الموقف المشرف، مع أنها ليست مطالبة أو مضطرة لذلك أو معنية بالقضية من الأساس! ولكن لعل فنزويلا التي نتقاسم معها رفض الهيمنة الأمريكية تحاول أن تحافظ على البقية الباقية من العلاقات الطيبة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي، وهي ليست المرة الأولى التي يتخذ فيها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز قرار طرد السفير الصهيوني من بلاده فلقد فعلها في صيف عام 2006م عندما اعتدت إسرائيل على لبنان حتى أنه شبه الإجرام الإسرائيلي بالإجرام النازي، وأنه يتم تحت الغطاء الأمريكي، كما أكد وزير خارجيته نيكولاس مادورو في نفس السياق أن الذي يحدث في غزة يفوق المحرقة النازية (الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
إن ما حرك فنزويلا من وراء المحيطات هو الشعور الإنساني الرفيع الذي تتمتع به وتشارك فيه كل الدول المتحضرة سواء ً المسلمة أو غير المسلمة في هذا العالم، وتحاول الإدارة الأمريكية تطويعه وفق مصالحها الاستعمارية العليا المتقاطعة مع الصهيونية العالمية بإخضاع الدول، والقضاء على حركات المقاومة والتحرر الوطني.
Kanaan999@hotmail.com