اليوم الثلاثاء العشرين من يناير كانون الثاني الموافق للثالث والعشرين من محرم الثلاثين من الجدي، هو اليوم المشهود الذي يدخل فيه الرئيس المنتخب (باراك أوباما) (البيت الأبيض) بصفة رسمية لممارسة مهامه الرئاسية، ...
.....بوصفه الرئيس الثالث والأربعين، ولهذا الحدث ملابساته الغرائبية في سياق الانتخابات الرئاسية والأوضاع العالمية المأزومة، ومن ثم فإن تحولات جوهرية يرقبها العالم على تخوف، وليست بالضرورة مرتبطة بذات الشاب الأسود المتوقد حماساً والمحفوف بتفاؤل عالمي، ولكنها مخاض أوضاع هي الأخرى غرائبية، وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوترات والتوقعات المتناقضة طَفِقْتُ تقليباً بالكتب والدراسات ذات المساس بالسياسة الأمريكية، وبخاصة مذكرات الرؤساء ومؤلفاتهم، بعد خروجهم من البيت الأبيض، وهي وثائق تنصلية، إذ كل رئيس له ثلاثة خطابات:
- خطاب السباق إلى البيت الأبيض.
- وخطاب القابع في البيت الأبيض.
- وخطاب الخارج منه.
ولكل خطاب لغته فمن خطاب الإغراء إلى خطاب التبرير إلى خطاب التَّنصُّل.
أما الشق الآخر من الكتب التي قد تساعد على فك شفرات الفترة الرئاسية القادمة فهي الكتب التي تتحدث عمن يحكم الولايات المتحدة الأمريكية، وبالذات (لاري إلويتز) في كتابه (نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية) وكتاب (ماكس سكيدمو - و- مرشال وانك) (كيف تحكم أمريكا) وما يناقضها تماماً مثل كتاب (من يحكم أمريكا والعالم سرا) ل(جيم مارس) والذي يعنينا في ظل هذه الظروف الأصعب التساؤل عمن يحكم العالم، أهو الرئيس؟ أم المؤسسات التشريعية والنيابية، والتنقيب في هذه المهايع يتطلب البحث عن العلاقات التاريخية بين أمريكا ومناطق التوتر، وبخاصة الشرق الأوسط، بعد تفرد القطب الواحد ومَشْروعَيْ العولمة والشرق الأوسط الجديد والتحول من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة، وأمريكا على كل الأحوال مشروع حديث متاح لكل الخطابات، وهي بغرائبيتها نص مفتوح مرتهن لفن الممكن، وَلَكَ أن تقرأ كتاب (أمريكا بلد المتناقضات) ل(مازن هاشم) غير أن القراءة العاطفية المتسطحة على الأحداث الآنية تند عن الحقائق، وتوقع في المبالغات وتوفض إلى سراب القيعان، والقراءة العقلانية المتجذرة لا تطفئ لظى الغضب الذي يلوب صدور المغلوبين على أمرهم في مواقع كثيرة من العالم ممن مسَّهم طائف من ظلم القطب الواحد سواء كان مباشراً بفعل الترسانة العسكرية أو غير مباشر بمكيدة المؤسسة السياسية وأمريكا تملك نواصي ثلاث:
- ناصية الردع العسكري.
- وناصية الهيمنة السياسية والثقافية.
- وناصية الاقتصاد العالمي والشركات متعددة الجنسيات.
ولكنها مع هذه الإمكانيات الاخطبوطية محكومة بقضاء الله وقدره: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ} و(وتقدرون وتضحك الأقدار) وقدر الله
النافذ لا يمنع من فعل الأسباب، فالتوكل على الله لا يمطر ذهبا، ولكن ييسر ويساعد كما الطير تغدو خماصا وتعود بطانا، ولا تبقى في أوكارها بانتظار ما لا يأتي ومهما تفاوت التفاؤل والتشاؤم حول القادم إلى البيت الأبيض، فإن له بصماته المرتبطة بقوته الذاتية والمعنوية وقدرته على الجدل والإقناع، وفي النهاية فإن الزعامة موهبة تصقلها المعرفة والتجربة وليست كسبية والرئيس القادم تحدوه الأصوات الانتخابية ولكنها لا تمكِّن له، فكم من قادم خيب الآمال، ولعلنا نتذكر (إيزنهاور) في أمريكا و(تشرشل) في بريطانيا و(ديجول) في فرنسا، ثم نضع إلى جانبهم (بوش) الابن و(بلير) و(ساركوزي) إنها مسافات ضوئية، وكل واحد من هؤلاء وأولئك حُمِلوا على أكتاف الشعب واختيروا بإرادة حرة، والشعوب (الديموقراطية) والشعب الأمريكي بالذات قد لا يعرف ممثليه في المجالس النيابية، وقد لا يضع أهمية لتجسير الفجوات بينه وبين ممثليه ولكنه يعرف بالتأكيد أدق التفاصيل عن رئيس الدولة، ومع حرص الشعب الأمريكي العاطفي إلى حد الطيش على قوة الرئيس وقدرته على المبادرة إلا أنه سريع التحول. وأسهم الرئيس كما سوق الأسهم تمنى بانهيارات موجعة، وذلك ما حصل ل(بوش) الابن، والسباق إلى البيت الأبيض لا تحدوه الكفاءة والأهلية وإنما يحدوه المنتفع الممول.
المثير في الرئيس الجديد أنه ليس أبيضَ، ولست أدري أ (كاثوليكياً) هو أم (بروستانتيا) والشروط المنصوص عليها في الرئيس ثلاثة: ألا يقل عمره عن خمس وثلاثين سنة، وأن يكون مواطنا بالميلاد، وأن يكون مقيما في الولايات مدة أربعة عشر عاما على الأقل.
أما الشروط غير المنصوص عليها فكثيرة والمستفيض منها: أن يكون (بروستانتيا) وإن نُقِضَ هذا الشرط ب(جون كنيدي) ولقد قيل أن اغتياله لأنه لم يكن كذلك، وأن يكون أبيضَ وألا يكون يهوديا ولا امرأة. ولقد فَصَّل (إلويتز) مهام الرئيس وسلطاته وفصل القيود على تلك السلطات، وفي النهاية فالحكم للمؤسسات العريقة والرئيس يمنح الشرعية للطبخات الناضجة أو المسلوقة. والإشكالية ليست فيما هو مكتوب أو متعارف عليه، ولكنها في السياسة التي تفرض نفسها في ظل أي ظروف طارئة، وفي الأغلبية في المجالس النيابية وفي ثوابت الأمة الأمريكية من خلال مؤسساتها الفاعلة، وإن كان (الفيتو) حقاً استثنائياً. لقد وجدت أمريكا نفسها وجهاً لوجه مع ما سمته بالإرهاب، وخلقت توهماتها مواقف لم تَصُبَّ في مصلحتها ولم تُصِبْ فيها المحز، بحيث جعلت من الإسلام عدوها الأول، واسْتَعْدَتْ بهذا الموقف الأرعن شعوب العالم الإسلامي، وحين خسرت الجولات والسمعة معاً، لم يكن فيها رجل رشيد يسدد ويقارب ويتحرف لمواجهة مشروعة، تحدد مفهوم الإرهاب ليكون بمعزل عن المقاومة المشروعة، ثم لا تلصقه بنحلة ولا بجنس، ولا تجد غضاضة من التنسيق مع دول العالم لوضع خطة معقولة لمواجهته، ومهما حاولت المؤسسة السياسية التنصل من المسؤولية وتحميل المخابرات الأمريكية جرائر المغامرات الفجة فإن سمعة الرئيس وفريقه اليميني المتطرف بلغت في تدينها حداً لا يطاق، ومهمة القادم إلى البيت الأبيض صعبة وشائكة.
لقد أناط الناخب عليه إنقاذ السمعة وإقالة العثرة الاقتصادية، وإعادة هيبة المؤسسة العسكرية، وأمريكا على الرغم من قوتها المتعددة المصادر إلا أن اقتصادها كالماء للسمك لا يمكن أن تحتمل هذه الانتكاسة، والرئيس القادم مطالب بترميم الهدميات المتعددة المواقع، دون أن تكون بيده عصاً موسوية، يضرب بها الحجر لتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ليعلم كل أناس مشربهم، ويضرب بها البحر لينفلق كالطود العظيم، والمراهنون على إقالة العثرات كالمراهنين على قمع إسرائيل وأطر غطرستها وحل القضية وتسوية الخلاف بالعدل والإحسان فالسياسة الأمريكية ذات ثوابت لا يمكن أن تتبدل بتبدل الرؤساء أو الأحزاب قد تكون هناك مساحة ترتبط بشخصية الرئيس، ولكنها لن تكون بالمدى المتوقع، وتعويل الأمة العربية بوصفها أكثر المتضررين من السياسة الأمريكية على الرئيس المنتخب تعويل على الوهم ورجم بالغيب، وكم كان بودي أن تتأمل الأمة المقهورة آية التغيير إذ لم تكن في الغير ولا منهم ولكنها من النفس وفي النفس، والأمة العربية المتفائلة إلى حد البلاهة ستفاجأ بخيبات أمل ذريعة، ولست هنا من المحبطين ولا من القانطين، ولكن المسألة حسابات مستمدة من تاريخ الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض ومن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق الأوسط كما يجسده (ديفيد ليفي) في كتابه الموسوعي (الشرق الأوسط والولايات المتحدة). وكما تجسده الكتب التي ألفها وزراء خارجية أمريكا وبخاصة (هنري كيسنجر) في كتابه (درب السلام الصعب) وهو اليهودي الماكر، الذي جسد مكره (كرستفر هتشنز) في كتابه (محاكمة هنري ليسنجر).
إن على الأمة العربية ألا تعول على ضربات الحظ ولا على الصدف فالزمن زمن البُنى والتأسيس والمأسسة وتنازع البقاء وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب:
(والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عِفَّةٍ فلعلةٍ لا يظلم)
أحسب أن احتفالية التنصيب وخطبة التنصيب ستكونان الأكثر بذخاً وإثارة، ولكن الأيام الحُبْلى ستلد ريحاً فيها صِرٌّ.
وإذا كنا غير متفائلين بما يعد به به الرئيس ويمني فإن على الأمة العربية أن تتحرف لمواجهة قدرها العصيب مُطَّرحة كل الآمال العريضة، فالواقع العربي والعالمي يتطلب التفكير الدقيق والارتداد إلى الداخل لإصلاح ذات البين وفك الاختناقات المتعددة ثم المواجهة الحضارية لدفع الظلم بالتي هي أحسن.
فلكل حرب مخاضاتها التي ستغير حتما مجرى التاريخ (وما الحرب إلا ما علمتم ودقتموا) فليبتدر العرب الراية باليمين وليمضوا حيث يؤمرون.