فئات من الناس تُغفر لهم خطاياهم، ويتناسى المجتمع زلاتهم وهفواتهم، ويتجاهل ما لديهم من قصور أو تقصير. تطوى حسناتهم وإن عظمت، ولا يؤبه بسيئاتهم مهما كانت. هم أولئك الذين لا يتكئون على أمجاد عريقة، ولا يستندون على موروثات عظيمة. والموقف الاجتماعي من الفرد يبنيه الماضي والتاريخ أو يهدمه، والعكس في كثير من المواقف والحالات وارد.
|
* حول هذه الفكرة تواردت الخواطر، واتفقت المعاني عند أكثر من شاعر، في بيئات وعصور مختلفة، وظروف اجتماعية واقتصادية غير متشاكلة، التفت لها (المتنبي)، بوصفه شاعر (البلاط)، وشاعر (المجتمع)، وشاعر (الحكم)، بعد أن تقلبت به الحياة، فقدَ ما كان يؤمله من أشخاص، وحاز على ما لم يتوقعه من آخرين، فكان من ذلك التباين أعظم الوقع وأفظعه عليه. قاده حسه الشاعري المرهف ليقول:
|
وما يوجعُ الحرمانُ من كفّ حارمٍ |
كما يوجعُ الحرمان من كفّ رازقِ |
* بالفكرة ذاتها يتجاوب معه شاعر من هذه (الجزيرة) أحكمته التجارب، وعركته الأيام وهذبتهُ، فيقول:
|
رجال تقصيره مع الناس مسموح |
لحيث ماله بالقديمه تلادي |
ورجال تقصيره مع الناس مفضوح |
كل يقول النار ترث رمادي |
* العمالقة من الأدباء هم الذين وحدهم يغوصون على هذه المعاني العميقة، وينظمونها في أبلغ العبارات وأدق الأوصاف، ولا يلتفت لها من الناس إلا من يمتلك التذوق للفن ومضامينه القوية، إذ تبقى عندهم مثل هذه الإماءات والإلتفاتات عالقة حاضرة، يتناولونها كلما جدّت عليهم مواقف الحياة، أو ألمّت بهم ملماتها.
|
* الحرمان أو التقصير قد يكون بالمادة عند من يمتلكها، وقد يكون بالجاه عند من كتب له. والإنسان عظيم بمواقفه. والحياة برمتها كلمة وموقف. وعلى قدر العزيمة تأتي العزائم من الإنسان، وبقدر الكرم تأتي المكارم منه.
|
* قد يتحمل الإنسان إرثاً من أحد هذه الأنماط الشخصية، وبالتالي تفرض عليه قيم هذا المجتمع وأخلاقياته وعاداته أن ينقاد لواقع معين مهما حاول التخلص منه، وتغيير النظرة الاجتماعية ليس بالأمر الهيّن كما يعتقده كثير من الناس. وبالذات بعض الشعوب التي لها خصوصية في حضارتها. والشخصيات العظيمة تستحضر ما يقال، أوما قد قيل عنها، وإن تقادم عليه الزمن، تستثيره الشواهد، وتلح عليه، بل أحيانا يستصغر ما يقوم به من معروف إذا كان يلامس مسمعه مثل قول القائل فيهم:
|
وما كان من فضلٍ أتوهُ فإنما |
توارثهُ آباء آبائهم قبلُ |
* هنا تبرز قيمة التراث لمن جهل ذلك، وهنا تبرز أهمية نشر قيمه، وما أصيب المجتمع إلا بعد محاولات الفصل بينه وبين تراثه. أ - هـ
|
|