سوف يظل الفلسطينيون لأجيال قادمة يتذكرون الحرب المروعة في غزة بالألم والمرارة. ولكن ما لا يستطيع أحد أن يجزم به الآن هو الكيفية التي سينظر بها الفلسطينيون إلى حماس. وما إذا كان بوسع حماس أن تدَّعي النصر - وما إذا كان الفلسطينيون ليصدقون حماس في ادعائها ذلك - فهو أمر سوف يقرره نوع وقف إطلاق النار الذي قد يُتَّفَق عليه في النهاية، هذا إن تم الاتفاق في نهاية الأمر على وقف إطلاق رسمي للنار. وعلى هذا فإن لعبة النهاية - بالنسبة لكل من إسرائيل وحماس - تشكل أهمية بالغة.
في اللحظة الحالية، ينظر غالبية الفلسطينيين إلى حماس باعتبارها ضحية لحرب المقصود منها إرغامها على الاستسلام. ولا ينبغي لنا أن ننسى هنا أن حماس وصلت إلى السلطة بعد انتخابات ديمقراطية، ولكنها حُرِمَت من ممارسة الحكم وحوصرت في غزة. وفي نفس الوقت يُتَّهَم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالانحياز لصف إسرائيل سعياً إلى استرداد سلطته المفقودة في غزة.
لقد كشفت هذه الحرب عن عيوب شابت قدرة حماس على الحكم على الأمور. فمن الواضح أن حماس لم تتصور وقوع مواجهة كاملة النطاق مع إسرائيل حين رفضت تجديد الهدنة التي دامت ستة أشهر. ففي ظل معاناة غزة تحت الحصار المطول، قال خالد مشعل زعيم حماس: (إن تجديد الهدنة أمر بلا جدوى ولا يسانده منطق، ما دامت الهدنة القديمة فشلت في رفع الحصار عن غزة). كما زعم البعض أن زعماء آخرين قالوا إن حماس (سوف ترفع الحصار بالقوة).
إذا كان لحماس أن تخرج من هذه الحرب ببعض الأمل في البقاء فلابد وأن تثبت أن مقاومتها أسفرت عن الفتح الدائم لمعابر غزة الحدودية، وبخاصة في رفح. إذ إن هذه العلامات تشكل في نظر الفلسطينيين نصراً. فمع فتح المعابر، سوف تتمكن حماس من تأمين نظامها في غزة وبناء شعبيتها في الضفة الغربية، وبالتالي فرض ضغوط هائلة على عباس، زعيم حركة فتح المنافسة، لقبول حكومة الوحدة الوطنية وفقاً لشروط تحددها حماس.
الحقيقة أن أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح يتهمون عباس بالفعل بدعم إسرائيل في القتال، ورغبته في (العودة إلى غزة على متن دبابة إسرائيلية). وتميل الجماعات الراديكالية داخل حركة فتح إلى عقد تحالف مفتوح مع حماس.
إذا خرجت حماس من هذه الأزمة ظافرة، فإن حلفاء عباس في الفصائل الفلسطينية الأخرى سوف يضغطون عليه لقبول حماس والجهاد الإسلامي في منظمة التحرير الفلسطينية. كما ستضطر مصر إلى التراجع عن رفضها لحماس من أجل إصلاح صورتها بين العرب وتخفيف حدة التوترات داخل المجتمع المصري. ومن المرجح أيضاً أن تنشأ الضغوط الرامية إلى دمج حماس في السياسة الفلسطينية في بعض العواصم الأوروبية، وبخاصة باريس ولندن، حيث عبر بعض الزعماء السياسيين عن معارضتهم لعزل حماس حتى قبل الحرب.
ولكن إذا نجحت إسرائيل في إرغام حماس على قبول شروطها فيما يتصل بمراقبة الحدود والوقف الرسمي لإطلاق النار، فإن صورة حماس باعتبارها الوصية على المقاومة الفلسطينية سوف تتضرر بشدة. وسوف يتساءل الفلسطينيون ما إذا كان من الضروري حقاً خوض هذه الحرب وتحمل مثل هذا الثمن الباهظ. كما سيصبح بوسع عباس أن يزعم أنه نصح حماس بتجديد الهدنة والكف عن إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية، ولكن حماس أصرت على تعريض المدنيين الفلسطينيين للخراب والدمار.
من بين المؤشرات التي نستطيع أن نترقبها: طول مدة وقف إطلاق النار. إذ إن الفلسطينيين سوف ينظرون إلى قبول حماس لهدنة تدوم لعدة أعوام مع إسرائيل باعتبارها علامة على الهزيمة، وهو ما من شأنه أيضاً أن يسلط الضوء على مشاعر المهانة والخذلان بين الفلسطينيين. والحقيقة أن حزب الله، على الرغم من اللغة الخطابية الحماسية، لم يتخذ أية خطوات لدعم حماس، كما بدت الدول العربية وكأنها على أتم استعداد لدعم هزيمتها.
سوف يتعاظم رهان المنافسة حين تأتي مرحلة إعادة بناء غزة. إذ إن عباس، المؤيد من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قد يجد تحت تصرفه أرصدة مالية ضخمة. والاختبار الذي سوف يخضع له في هذه الحالة يتلخص في الإنجاز السريع. ومن المنتظر أيضاً أن تتحصل حماس على موارد مالية ضخمة لإعادة البناء. فقد أعلنت دولة قطر، المؤيدة لحماس، عن تأسيس صندوق استثمار لصالح غزة وساهمت فيه بمائتين وخمسين مليون دولار.
سوف يكون لزاماً على حماس أن تسوق من الحجج ما يكفي لإقناع الناس بأن دمار غزة شبه الكامل كان ثمناً لا مفر من تكبده. فمن المعروف أن العديد من الفلسطينيين يعتقدون أن إسرائيل تعمدت إلحاق هذا الضرر الشديد بغزة للوقيعة بين الشعب الفلسطيني و(المقاومة). وهناك سابقة لهذه الحجة: فقد وصف حزب الله الدمار الذي لحق بضواحي بيروت الجنوبية بنفس المصطلحات عند نهاية حرب لبنان في يوليو- تموز 2006م. والأهم من ذلك أن حماس تستطيع أن تبرهن على أن زعماءها كانوا عند الخطوط الأمامية أثناء الحرب، فتقاسموا المعاناة مع بقية الفلسطينيين في غزة؛ واستشهد العديد منهم إلى جانب أسرهم.
السؤال الأعظم الآن هو: ما إذا كانت الحرب سوف تغير من الأهداف السياسية لحماس. فمنذ أسبوعين أشاد موسى أبو مرزوق، وهو من كبار مسؤولي حماس، أشاد بالرئيس السابق جيمي كارتر في صحيفة لوس أنجلوس تايمز واصفاً إياه بالرئيس الأمريكي الوحيد الذي أسفرت جهوده عن سلام حقيقي في الشرق الأوسط.
الحقيقة أن هذا يشكل خروجاً جذرياً عن خطاب حماس، الذي دأب على تصوير اتفاقيات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر باعتبارها خيانة للعالم الإسلامي. ربما ما زال علينا أن ننتظر حتى نرى ما إذا كانت وجهة نظر أبو مرزوق ليست أكثر من تكتيك المقصود منه تشجيع إدارة أوباما على مد يدها إلى حماس، أو ما إذا كانت الحرب قد أقنعت حماس بأن الحل القائم على دولتين هو الخيار العملي الوحيد لتسوية النزاع مع إسرائيل.
محمد ياغي زميل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
www.project-syndicate.org