بيده البيضاء، وقلبه الناصع، المحب للخير، المشفق على أمته، الناصح لهم فتح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز باب المصالحة على مصراعيه. تجاوز الآلام، وأخطاء الآخرين وخاطب الأمة بشفافية وتجرد. لم يستثن أحداً في خطابه التاريخي الذي ألقاه في (قمة الكويت الاقتصادية). دعا إلى وحدة الصف، وتجاوز مرحلة الخلاف وفتح باب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب. شدد على ضرورة وحدة الفلسطينيين وتنقية الأجواء فيما بينهم، وذكرهم بأن (فُرْقَتهم أخطر على قضيتهم من عدوان إسرائيل).
حول الملك عبد الله مسار القمة بعد أن فاجأ الجميع بمفاجأته السارة التي ملأت قلوب المخلصين بالسعادة والصفاء، وبعثت في نفوسهم الأمل، بعد أن حجبت أصوات المتربصين بمصير الأمة. كنا نتمنى أن تتلقف الدول العربية، والجماعات الفلسطينية رسالة التسامح، ودعوة إعادة اللحمة والترابط بين المسلمين بمسؤولية تامة تقدم مصالح الأمة المصيرية على مصالحهم الضيقة، وأن يقبل الأخوة الفلسطينيون برأب الصدع، ومعالجة الأخطاء والاجتماع فيما بينهم للوقوف صفا واحدا أمام العدو الصهيوني، ولحماية الأبرياء من جريرة الاختلاف. حتى الآن لا يبدو أننا مقبلون على مرحلة جديدة من التعاون المثمر البنّاء، ولا أظن أن الأخوة العرب قد تعلموا من دروس الماضي ما يمكن أن يحميهم من مغامرات المستقبل. لن يُكتب النصر للفلسطينيين دون توحدهم ونبذهم الفرقة، واعتصامهم بحبل الله، ولن تقوى شوكة العرب وهم متنازعون بعيدون كل البُعد عن قول الله عز وجل: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
لم يتوقف الملك عبد الله عند مرحلة التسامح، والمطالبة بوحدة الصف، فتجاوز مرحلة الخطابات العربية إلى مرحلة العمل المثمر، وقرن خطابه التاريخي بتبرع سخي بلغ مليار ريال سعودي لإعادة إعمار غزة، وهو ما يعادل 50 في المئة من تكلفة الإعمار الإجمالية، واسترخص أموال الدنيا في مقابل دماء الشهداء الزكية حين قال: (إن قطرة واحدة من الدم الفلسطيني أغلى من كنوز الأرض وما احتوت عليه).
أموال الإعمار فتحت باباً آخر للاختلاف بين الأشقاء الفلسطينيين. امتلأت الصحف ببيانات التخوين الفلسطينية والردود المضادة، اتهامات صريحة بالفساد المالي، وخشية كل طرف من الآخر استغلال أموال الإعمار السعودية في غير ما رصدت له.
الحقيقة أن أموال الدعم التي دأبت على إنفاقها الدول الخليجية لم يصل معظمها إلى أيادي المستحقين من أسر الشهداء، الفقراء، المساكين، وذوي الحاجات الخاصة، ولم تُنفق كما يجب على تنمية القطاع والضفة. نصف أموال الدعم الخليجي كانت كافية لتنمية القطاع والضفة، وبناء منزل لكل أسرة فلسطينية، وإنشاء قطاعات إنتاجية قادرة على خلق الوظائف وتوفير مصادر دخل كريمة للفلسطينيين، إلا أن أمراً من ذلك لم يحدث، واستمرت القضية الفلسطينية تقدم الشهداء، في وقت حرص الأخوة الخليجيين على ضمان تدفق أموال الدعم للأراضي المحتلة إلا أنها بقيت بعيدة عن أيدي المستحقين، ولم تسهم في خلق التنمية التي يمكن أن تشير إلى مصدر الأموال من جهة، أو أن تهنأ بها أنفس المحتاجين.
إذا كانت أموال الدعم ستفتح أبواباً أخرى للخلاف، في وقت يعاني فيه الجميع من عدم تحقيق عدالة التوزيع، وعدم انعكاسها على تنمية القطاع والضفة، فمن الأفضل أن تمر هذه الأموال من خلال المنظمات الدولية وفق مشروعات محددة يوافق عليها المانحون، وتلتزم المنظمات الدولية بتنفيذها. المنظمات الدولية ستضمن إنجاز المشروعات بعيداً عن التعقيدات الإسرائيلية، أو ربما أنها قادرة على مواجهة التعنت الإسرائيلي أكثر من الآخرين. المنظمات الدولية يمكن أن تكون خياراً مقبولاً من الجميع، وهو ما يضمن تدفق أموال الدعم وإنجاز خطة البناء في أسرع وقت وهو ما يحتاجه الأخوة الفلسطينيون الذين يعيش أكثرهم بلا مأوى في الوقت الحالي.
يمكن للمملكة أن تعتمد أيضا على نفسها في عملية البناء وتوزيع المساعدات، وإيصال الدواء والغذاء لقطاع غزة؛ للسعودية خبرات كبيرة في هذا المجال، وهي قادرة، بإذن الله، على تحقيق النجاح بأيادي أبنائها المشفقين على خدمة الإسلام والمسلمين.
أعتقد أن أموال الدعم، ومشروعات البناء في حاجة إلى حماية خاصة من المنظمات الدولية، والمجتمع الدولي، وتعهد من الإسرائيليين بعدم استهدافها تحت أية ذريعة، خاصة أنها مشروعات مدنية خالصة، وتصرف القادة الفلسطينيين بمسؤولية وأمانة وفق ما تقتضيه مصلحة الشعب الفلسطيني. ليس من العدل أن تنفق الدول المانحة أموالاً طائلة على البناء والتعمير، نصرة لأشقائهم، ثم تفاجأ بتدمير القوات الإسرائيلية لها ظلما وعدوانا، دون أن يستفيد منها الفلسطينيون.
الحرب على غزة كشفت النوايا الخبيثة لأعداء الأمة، ونزعت الأقنعة عن وجوه المتربصين بمستقبلها، والساعين في إثارة الفتنة بين المسلمين. وحدة الصف الفلسطيني، واجتماعهم على ميثاق الله، وتوافقهم جميعا على كلمة رجل واحد بعيدا عن التحزب، وتغليب مصلحة الفلسطينيين الضعفاء، لا القادة الأقوياء، فيما يحقق أمر الله أولا ثم مصلحة وطنهم وشعبهم، والبعد عن مثيري الفتنة، ومستغلي القضية لمآرب أخرى، تمثل القاعدة الأساسية التي يمكن أن يُبنى عليها النصر، بإذن الله؛ ثم تأتي مرحلة نصرة المسلمين لإخوانهم، والتحرك لمواجهة العدو الإسرائيلي بقيادة واحدة وبكلمة سواء، وبنوايا صافية متوكلين على الله، طالبين العون والتمكين منه من خلال تحقيقهم متطلبات النصرة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
أختم بالعودة إلى خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز التاريخي الذي فتح به باب المصالحة، واجتماع الكلمة، ونبذ الفرقة، وأُذَكر بأحدث الدراسات الدولية التي أثبتت أن (20 عاماً من الصراع كلفت الشرق الأوسط 12 تريليون دولار)، أعتقد أن النسبة الأكبر منها تخص الدول العربية، والمؤلم حقاً أن تحدث بسبب نزاعات عربية، ومغامرات فردية، وحروب حدثت بين العرب والمسلمين بعيداً عن عدوهم المشترك، وأن تستغل القضية الفلسطينية لتبرير الكثير منها، برغم الخسائر الفادحة، والشعارات الثورية التي لم تنقطع، ما زالت إسرائيل تحتل القدس ودماء الشهداء تسيل.
***
f.albuainain@hotmail.com