جاءت من صميم مجتمعنا ومن رفيع أرومته. اسمها (غالية آل بدر البقمية)، والمشهورة في المصادر التاريخية باسم (غالية الوهابية). كانت إحدى النساء (السعوديات) الرائدات، التي خلد اسمها التاريخ بأحرف من ذهب. ولم يبق من ذكراها إلا اسم شارع في الدرعية.
غالية لم (تقد السيارة) في عمرها قط، ولكنها قادت ما هو أعظم: (الجيوش)، وانتصرت، ودحرت بقيادتها، وحكيم تدبيرها، وسداد رأيها، جيشاً عرمرماً تم حشده لغزو بلادنا من كل حدب وصوب. صَدّ الجيشُ الذي تقوده (غالية) جحافل الغزاة؛ وبإيمانها وتصميمها وشجاعتها وشجاعة من تقودهم انتصرت على العدو (الغريب) القادم من خارج الجزيرة، وأذاقت جيوشه الجرارة مُر الهزيمة وعلقم الاندحار.
ولأنها امرأة، ولأن عاداتنا (المُحدثة) ترفض ذلك، جرى تهميش هذا الدور الريادي لواحدة من أعظم النساء في تاريخنا (القريب).
يقول التاريخ: في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وتحديداً في عصر الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد وابنه الإمام عبدالله بن سعود، كانت الدولة السعودية الأولى قد بلغت الذروة من الاتساع والقوة. وأمام هذا المولود العربي الإسلامي الأصيل استشعرت الدولة العثمانية، أو دولة الخلافة (التركية) كما يسمونها، الخطر، فقررت القضاء على الدولة السعودية الناشئة في عقر دارها، وكلفت واليها على مصر (محمد علي باشا) تنفيذ هذه المهمة لمصلحة (الأتراك). أناط محمد علي قيادة هذه الجيوش بابنه (طوسون)، وهيأ له من المؤن والرجال والسلاح والعتاد ما يتناسب مع هذه المهمة. قاد طوسون هذه الحملة العسكرية، وتوغل في قلب الجزيرة حتى وصل إلى حدود مدينة (تربة) التي كانت تسكنها قبيلة (البقوم) إحدى القبائل السعودية، والمعروفة بهذا الاسم حتى الآن؛ وهنا جاء دور فارستنا العظيمة (غالية)، التي قادت المعارك، فهزمت طوسون وقواده وجيشه الجرار بعد ثلاثة أيام بلياليهن من الحرب والنزال والكر والفر.
يقول المستشرق السويسري الرحالة (جوهان لودفيج بوركهارت) الذي كان موجوداً أثناء حملة طوسون العسكرية في منطقة الحجاز، وشاهد كثيراً من هذه الحروب ورواها كشاهد عيان: (كان يتزعم قبيلة البقوم الذي يعمل بعضهم في الرعي والبعض الآخر في الزراعة امرأة تسمى غالية). ويواصل: (كانت مائدتها دائماً معدة لكل الوهابيين المخلصين، الذين يعقد زعماؤهم مجالسهم في بيتها). ويقول بوركهارت: (وبما أن هذه السيدة الكبيرة كانت مشهورة بسداد الرأي والمعرفة الدقيقة بأمور القبائل المحيطة بها فإن صوتها لم يكن مسموعاً في تلك المجالس فقط، وإنما كان هو المتبنى بصفة عامة).
ويقول المؤرخ المصري محمود فهمي المهندس في كتابه (البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر) ما ملخصه: (وقائد العربان في ذلك الوقت امرأة أرملة اسمها (غالية). كان زوجها أشهر رجال هذه الجهة، وكانت هي على غاية من الغنى، ففرقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة الترك، وكان (العرب) محافظين على أسوار مدينة تربة بشجاعة ومستبشرين بوجود غالية معهم، وهي مقدمة عليهم). كما ذكرها -أيضاً- الجبرتي في تاريخه.
والسؤال الذي تثيره مثل هذه المعلومات التاريخية الثابتة، والمتعددة المصادر: لماذا إذن وصل الأمر بالمرأة السعودية إلى درجة أن تمنع من (مجرد) حق قيادة السيارة؟ أليس في ذلك مفارقة جديرة بالبحث والتمحيص ناهيك عن السؤال؟ إلى اللقاء.