الشيخ عبدالله ابن منيع أحد أعضاء هيئة كبار العلماء كتب قبل أيام رسالة نشرت في وسائل الإعلام، وجهها إلى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما. الرسالة كانت مبادرة رائعة ومشكورة من الشيخ تدل على علمه، وسعة أفقه، وإدراكه لمستجدات العصر، ما يتطلبه من مفاهيم تتواكب مع هذه المستجدات.
الخطاب في لغته الراقية، والجوانب التي تناول منها الفكرة كان جيداً، وينم عن عقلية متفتحة، تدرك أن (الحل) في الحوار، وأن المفاهيم (الإنسانية) هي أس من أسس الإسلام.
مشكلة بعض علمائنا (التقوقع) في الذات، ورفض الآخر، والميل إلى التشدد، والفظاظة، وأحياناً التسفيه بالآخرين، واستخدام لغة التجهيل، وكذلك احتكار المعرفة، وفي المقابل نزعها من الآخرين.
وأنا على يقين أن كثيراً من العقليات التي تميل إلى التشدد، و(الغلظة) مع المخالف، والإغراق في التشبث (بالأنا) وتمجيدها، لن تستسيغ مثل هذا الخطاب. هؤلاء بلغ بهم التقوقع في الذات إلى درجة أنهم اختصروا العالم كل العالم في (محيطهم) الضيق، وفي تلاميذهم، ومن يبجلونهم ويشيدون بتشددهم، فانعكست هذه الرؤية الضيقة على مواقفهم، واختياراتهم الفقهية، فبدوا متخبطين، ينتقلون من مأزق إلى مأزق، ومن أزمة إلى أزمة، مستهلكين في الوقت نفسه (هيبتهم)، واحترام الآخرين لهم، كباراً وصغاراً عامة وخاصة.
وفي تقديري أن سعة أفق الشيخ عبدالله كانت نتيجة اهتمامه منذ عقود بالمعاملات المالية في الإسلام، وما يتعلق بها من فقه النقود والبنوك، وعقود التأمين. مثل هذه المعاملات تقود المهتم بها إلى أن يقف عن كثب على ترابط الداخل بالخارج، وإدراك أن اقتصاديات الدول لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا عندما تكون حلقة ضمن منظومة الاقتصاد العالمي، أن تتماهى (الحلقة) مع متطلبات (السلسلة) ليس خياراً وإنما حتم، وكما يقول فقهاء الأصول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
من يقرأ خطاب الشيخ يجد أن هذه الخبرة الطويلة في تعامله مع الشؤون المالية والبنكية بأبعادها العالمية، وإدراكه أن (العزلة) تعني الانتحار، وأن التواصل مع الآخر يعني البقاء والازدهار، كانت بمثابة الدافع الذي دفعه في رأيي إلى كتابة هذه الرسالة، أن (يبادر) عالم من علماء المملكة إلى الفعل، فيمد يد (التواصل) إلى الرئيس الأمريكي الجديد، ولا ينتظر ليتحول إلى (ردة فعل) كما هو - للأسف - ديدن كثير من علمائنا، فهذا تغير إيجابي لا يمكن لنا إلا أن نقف له مرحبين ومؤيدين.
وكما أقول وأكرر أن العالم اليوم يختلف عن عالم الأمس، من يظن أننا نعيش في قلعة موصدة الأبواب، فلا يجب أن يتدخل أحد في شؤوننا، مثلما لا نتدخل في شؤون الآخرين، فهو يتعامل بمنطق الأمس، وليس بمنطق عصر العولمة. العالم اليوم أصبح كتلة مترابطة، تزداد ترابطاً وتداخلاً مع صبح كل يوم جديد. الأزمة المالية التي تعصف بالعالم هذه الأيام تثبت هذه الحقيقة. فقد بدأت - أولاً - في أمريكا، ثم اتسعت حتى وصلت إلى كل بيت تقريباً. ألا تأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار فأنت لا تمت للواقع ولا لفقه الواقع بصلة.
بقي أن أقول إننا في أمس الحاجة لمثل هذه المبادرات، سيما ونحن نعيش في زمن يختلف تماماً عن زمن السلف رحمهم الله.
إلى اللقاء.