تمطرني رسائل المراكز الحديثة الهاتفية بالدعايات للرياضة وللتبضع وللعلاج وللتجميل وقليل منها ما تخبرني عن موعد ندوة أو لقاء فكري، والنادرة فيها التي تقتطف لي عبارة فرَّت من فكر مبدعها لتطير في فضاءات الأسماع فتستقر في ذاكرة تذوُّقهم فلا يلبثون أن يرطبوا بها جفوة الواقع الذي جرحته وحشة الخواء وصكت مسامعه الأبواق بشتى أنغامها وأصواتها بل ألوانها ومشارب الصارخين...
لا أدري، فقد طرأت لي صورتان متناقضتان لبنائهما، واحدة منهما صورة عقل الإنسان، والأخرى صورة جسمه، وبمقدم هاتين الصورتين الطارئتين للمخيلة، تخيلت جسماً نحيلاً شاحباً, كلما غاب عنه النظر، عاد إليه فوجده قد اكتسى بكل زينة، في هيئة تتيح للناظر مهابته...
بينما صورة العقل مطمورة في غيابت الرأس، يؤشر نحوها لسان ناطق وفكر بارق، وكلام ملضوم، فأي امتلاء ذي جدوى؟ الجسم الظاهر للعيان أم العقل المختبئ وراء اللسان؟.. فبناء الجسم ظاهره هيئة صاحبه، وبناء العقل هيئته لسانه..,.. ذهبت مع هاتين الصورتين أتذكر كثيرات من الدارسات في الجامعة ممن كنَّ لا يجبن عن أيسر الخبرات وأقرب المعلومات في محيطهن، فعقولهن خاوية بينما هيئاتهن وضاءة بزينتها، فأطلب إليهن الوقوف قليلاً أمام المرآة في الصباح وهنَّ يتزينَّ للخروج ويحرصن على هندامهن ومظهرهن، ليكنَّ في أجمل الصور لتسأل كل منهن نفسها أمام مرآتها: كيف هي صورتي الداخلية: ما الخبرات التي أضفتها وما المعلومات التي زودت بها فكري وما هي مكنونات عقلي في داخلي؟..
ترى من يزين جسمه كثيراً، ويزيد في وجاهته، أيزيد كثيراً في وجاهة عقله...؟
كيف يشعر ببهجة وجاهة خارجه، إن كان في هذا الدليل عليها.., وكيف يشعر ببهجة وجاهة عقله إن كان في قوله وفعله ما يدل على ما فيه؟...,
وتبقى المفارقة بين غناء وفقر، وصحة ومرض، وقوة وضعف، وهمة وتقاعس, وعزم وخور، وصدق وزيف، مؤشرات تتحرك موسومة بها الأجسام والعقول.