رحمك الله يا أبا محمد، فإنّ الموت حق، لأنّ الله سبحانه كتبه على كلِّ حي، في هذه الدنيا، ولا رادّ لقضاء الله، يقول سبحانه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (26-27) ورة الرحمن.
إلاّ أنّ وقعه المفاجئ شديد الوطأة، وخاصة مع الأحباب والأعزّة، ومن يرتبط المرء معهم بمودّة وعشرة، فيها ذكريات، وصلات ودِّية لله، وفي الله، بعيدة عن المصالح الدنيوية.
ففي صباح الاثنين 29-1-1430هـ هاتفني أخ عزيز قائلاً: هل قرأت جريدة الجزيرة هذا الصباح، فأخبرته بأنّ عادتي قراءة الصحف، في المنزل بعد الدوام، لأنّ وقته مخصّص للعمل والمراجعين فقال: أطلبها وانظر صفحة كذا، وسأتصل بك بعد قليل.
فتحت تلك الصفحة، بعدما طلبتها، فإذا بها نعي لأخ كريم، ربطتني به زمالة العمل في تعليم البنات فترة من الزمن، وخلالها كانت التوعية في الحج، إذ تعاونت معه سنوات في تحرير صفحات إعلامية ومقابلات في مجال التوعية في موسم الحج، فكان نعم الأخ الوفي والعالم المتواضع.
ثم استمرت الصلة الخالية من المصالح الدنيوية، فكان نعم المعين والمشير إلى الخير، والمفيد في هذا الميدان مع ضيوف الرحمن .. فقد سبح خاطري في تصفّح تلك الذكريات، وأترحّم على هذا الفقيد الغالي، الذي سبقنا إلى الدار الآخرة، فهو سابق ونحن بعده في الأثر: على خير عمل إن شاء الله.
قطع وجومي صاحبي الذي أعاد المكالمة، فبادرته التعزية في فضيلة الأخ الدكتور: عبد الله بن محمد العجلان .. الذي عرفناه بسعة الصدر والهدوء، وكان هذا الصاحب يمازحه بقوله: ليس لك من اسمك نصيب فلَسْتَ متعجلاً في أمورك ليبادله - كما عهدناها منه - بالابتسامة والجواب الهادئ.
وما مبادرتي له بالتعزية إلاّ لكوني أعرف صلته به الوثيقة، وما تتركه التعزية من أثر في نفسه، حيث وجمنا سوياً لندعو لأبي محمد بالقلوب الحزينة، لكن لا نقول: إلاّ ما يرضي الرب، إذ لا شك أنّ فراقه بسجاياه، ودماثته وطيب المعدن، أثرهما شديد الوطأة.
فقال لي: لهذا اتّصلت بك أولاً، ولما عرفت أنك لم تطلع على الخبر، لم أرغب أن أكون البادئ، بمثل هذه الفجيعة .. فدعونا لأبي محمد بالمغفرة والرحمة، جعل الله جنة الفردوس منزلته، وعوّض أولاده وأسرته عنه بالصبر والرضاء، مع الاحتساب.
لقد عرفته - رحمه الله - عن كثب، فهو قد منحه الله خصالاً عديدة، منها: الهدوء وسعة الصّدر، والصبر وحسن الخلق، منذ جمعنا العمل في رئاسة تعليم البنات، هو قادم من وزارة الزراعة، وأنا منتقل من وزارة المعارف.
ولأنّ همّته - رحمه الله - عالية، فقد وجدها فرصة سانحة لمواصلة التعليم العالي، حتى نال درجة الدكتوراه، من كلية الشريعة في جامعة الأزهر، ومع ذلك لم يقتصر على نيل الشهادة، بل كان دائم البحث والمطالعة لا لأنّ عمله يقتضي ذلك، وعمله إداري وتربوي، بل كان من شغفه بالعلم.
ولقد كان فضيلة رئيس تعليم البنات: الشيخ ناصر بن حمد بن راشد - رحمه الله -، وهو الذي يسبر غور الرجال، يطمئن إلى الدكتور عبد الله العجلان لثقل مكانته عنده.
ولقد أدى عمله في وكالة كليات البنات بكفاءة ومقدرة مع بُعْد نظر، وخاصة في اللجان التعليمية التي يشارك فيها، وبصماته بارزة على ما يحقق الهدف، الذي يرنو إليه ولاة الأمر، ومتطلّبات العمل والغرض المنشود، فهو يمتاز بالقدرة على النقاش والحوار.
وفي مدة عمله نما التعليم الجامعي للبنات، متزامناً مع نمو المدارس في التعليم العام .. فكان التعليم الجامعي: المناط به: معاهد المعلمات بعد التطوير، ثم كليات التربية، التي كانت تخرّج أفواجاً تسدّد حاجة المدارس، القائمة في أنحاء المملكة في وقت قصير.
فكان العمر الزمني إذا نظرنا ذلك الوقت إلى إنشاء الرئاسة نفسها، والتي قامت في أول عهدها على المدرّسات غير السعوديات، لانعدام الكفاءات المتعلمة المحلية، وقد سُدّ بالمتعاقدات بعض الفجوات إلاّ أنّ العجز يتزايد، مع الطّفرة التعليمية، والاتساع الأفقي في التعليم في المدن والقرى، إلاّ أنّ معلمات العلوم الدينية كانت شبه معدومة.
ولما كان التربويّ الناجح هو الذي يُعْمل فكره، ويطور ما يصل إليه، فإنّ الدكتور عبد الله، وهو أول من حمل لقب الدكتوراه في تعليم البنات، كان عضواً نشطاً في الاجتماعات، بمكتب فضيلة رئيس تعليم البنات. ففي تقرير منه بعد عودته من لجنة التقاعد، بديار الشام الذي أبان فيه تعذّر الحصول على القدر الكافي من مدرّسات العلوم الدينية، جاء التفكير في حالتين: عاجلة وآجلة:
أما الأولى: فهي الاستئناس ببعض النساء، الحافظات لكتاب الله (المطوّعات) بتعيينهنّ في المدارس الابتدائية. ولما كان التعيين لا بدّ له من شهادة دراسية، فاستقرّ الأمر على الاكتفاء بتزكية قاضي البلد: بعلمها وأمانتها، ومن ثَمّ يستصدر أمر استثنائي من الملك فيصل - رحمه الله - بتعيينهنّ في قراهنّ وبُلْدانهنّ، على المرتبة التاسعة ذلك الوقت، وهي أصغر مرتبة .. وقد تمّ هذا، ومكّن الفكر الأمر، بالموافقة على ما شرحه رئيس تعليم البنات، وقد نجحن فيما بعد في العمل، ومنهنّ من طوّرتْ نفسها: علمياً وتربوياً.
ومن ذلك التخطيط، أصبحت المتخرّجات، من فرعي العلوم العربية والدينية من كليات المعاهد والتربية مغطّيات حاجة المدارس في قرى ومدن المملكة، بل تعدّى الأمر، إلى المدارس الأهلية في مختلف المراحل.
ولما كان التربويون يرون أنّ من تعريف التربية: الأخذ من كلِّ فنٍّ بطرف، وأنها فكر متطوّر، فكان الدكتور عبد الله - رحمه الله -، من قراءاته ومناقشاته، كما عرفته: تربوياً ناجحاً، مع أنّ تخصصه العلمي: شرعي.
أما مجالسه ودماثته مع إخوانه، فقد كان متواضعاً جداً، يهتمّ بمخاطبة الصغير قبل الكبير، وينزل الناس منازلهم، ويعرض على الكل ما يهمّه في عمله، ولا يعدم رأياً يعضد ما عنده ليسير فيه.
وكان ظريفاً في الحديث، لا يخرج شعوراً، ولا يتعالى برأي، ففي الاجتماعات: إذا طرح رأياً، ثمّ بان له رأي غيره، يتراجع عن الأول، ليؤيِّد الثاني، ولو كان هذا الأخير من عند غيره، لأنّه ينشد ما فيه مصلحة ظاهرة، ويحقق الغرض المنشود، بالمرونة والبساطة، ولطالما اهتمّ بقرن رأي بما قاله الأصوليون في الفقه فإنه أصولي، ينعكس علمه على عمله.
ومع علمه وتواضعه له مكانته بهيبة العلماء ووقارهم، ومع ذلك فهو قليل التأليف بعد الرسائل العلمية، إلاّ أنه بعدما تقاعد، وفي مجلس الشّورى، كانت تطلع له كلمات في بعض الصحف، حبّذا لو جمعها أبناؤه، كعِلْمٍ ينتفع به.
أما مزاحه فإنّه يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم في المفاكهة ولا يقول إلاّ حقاً، وأذكر واحدة من إخوانياته: فقد كان في الأردن، في لجنة التعاقد، وسكن مع زملاء العمل، في بيت واحد، وكان معهم موظّف بشرته سمراء، ويحب أن تبيضّ بشرته، مثل سكان الشام، ظناً منه بأنّ من سكن الشام لا بدّ أن يبيضّ مثلهم، فدخل الحمام يوماً، كعادته في إطالة الوقت فيه، حيث يدلك جلده بالصابون والشّمبو والكريمات طويلاً.
ولما كان وقت الصلاة قد حان، والدكتور عبد الله، وزملاء السكن ينتظرون صاحبهم يخرج من الحمام الوحيد في هذا السكن، حتى يتوضؤوا .. فبادره الدكتور عبد الله ممازحاً: يا فلان لو تجلس سنة كاملة في الحمام، وكلّ يوم تقوم بمثل عملك اليوم، فإنك ستبقى على سمرته، ولن تتغير إلى البياض فريّح نفسك وملائكتك.
فضحك الجميع، وكانت هذه النادرة منه، سبباً لترك زميلهم ما اعتاد عليه.
وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل يقول: الموعد يوم الجنائز، فقد كانت جنازته - رحمه الله - ذات رقم قياسي من مشيّعيه لمكانته ومحبّتهم له، حيث اكتظّ مسجد الملك خالد، ومقبرة أم الحمام، بالحضور في وداع الدكتور عبد الله، إلى الدار الآخرة، فكان يوماً مشهوداً تقاطر فيه الناس، وعارفوا مكانته، رحمه الله رحمة واسعة.