في المقال السابق الذي نشر في هذه الجريدة المميزة بعنوان (أمة في خطر) خلصت منه إلى أن هناك شواهد على أمراض مستعصية ومستفحلة في نسيج الأمة وكيانها ومنها ازدواج أنماط الشخصية والسلوك الفردي والجماعي والهروب من المواجهة في الاعتراف بما تعانيه من خلل وأزمة، وكذلك الشعور العام
بالهزيمة النفسية والمعنوية مما أدي إلى الاستكانة والركون وإلى البحث لما يمر بالأمة من محن ومشاكل عن حلول لدى الآخرين. واستكمالاً للمقال السابق فقد وجدت ضرورة متابعة الاستشراف لمستقبل الأمة في ضوء المتغيرات التي أراها تحديات تواجه العالم بأسره والعالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص فقد تكررت مشاهد الصراعات البينية بين الأفراد والدول بل والعجز عن إدارة هذه الصراعات بل والشعور بخيبات الأمل في كل أزمة تواجه الأمة حيث يشهد الجميع الصرخات والعويل والشماتة والتهويل في كل حين تصاب فيه الأمة إلى أن أصبح ذلك سمة ملازمة لتلك النكبات والمصائب، وحينما تتوقف الحروب والاعتداءات أو المشكلات على الأمة تنسى الشعوب والأمم الفجائع وتعاود الاستمرار في العيش واللهو واللعب وتضييع الوقت، والأمم من حولها تعمل وتخطط وتحاسب وتبني نفسها وتستغل وتسابق الزمن بل وتخترع ما يسمى بالفيمتو ثانية وتأثيره في مسيرة الحياة ونشاطات العلم. فما هي التحديات التي تواجه العالم اليوم وأمتنا على وجه الخصوص؟ وكيف نواجه هذه التحديات إذا أردنا أن نعيش في بؤرة العالم ونُحترم أمام الأمم ويُحسب لنا حساب؟ أرى أنه يمكن تقسيم هذه التحديات إلى أربع رئيسية بينها تداخل واستقلالية بعضها، تحديات بعضها له صفة الاستمرارية وبعضها طارئ، وفي ما يأتي استعراض لهذه المؤشرات أو التحديات:
أولاً: تحدي التنمية البشرية Human Development
إن التنمية البشرية هي عملية أو عمليات مركبة تحدث نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل المتعددة والمتنوعة من أجل الوصول إلى تحقيق تأثيرات معينة في حياة الإنسان وفي سياقه المجتمعي. وإن العالم المتقدم أو ما يسمى بالمتحضر أصبح اليوم بل ومنذ فترة ليست بالقصيرة يعتمد في استراتيجيات التخطيط والتطوير والنهضة والتقدم على العنصر البشري في فكره وحريته وإبداعه ومسؤوليته ومشاركته وصحته وسعادته، وإن البيئة والثروات العقلية والمادية والجوفية والطبيعية وما ينتج عنها إنما تكون نتائج ما يتاح للإنسان من فرص تنمية وتطوير وإبداع وتحسين، والأمثلة على استثمار الاهتمام بهذا العنصر على المستوى العالمي كثيرة ومؤثرة سواء كان ذلك من نموذج الدول الأوروبية أو أمريكا أو اليابان أو الصين أو ماليزيا أو الهند والبرازيل وهكذا، وقد يرد على ذهن الكثير ممن قد يتوقف عند تبسيط هذا الجزء أن أغلب الدول ومنها الدول النامية تهتم بهذا الجانب وتجعل الإنسان في محور دساتيرها وأولويات أنظمتها وخططها القصيرة والبعيدة المدى. والواقع أنه على المستوى النظري لا يمكن أن ينكر أحد هذا، ولكن بشيء من استقراء الوقائع والشواهد من عالم اليوم نجد حجم التعليم ومستوى الوعي الذاتي والاجتماعي والصحي والحضاري وكذلك مستوى تحمل المسؤولية الشخصية والاجتماعية ومستوى الإنتاجية تأتي في القوائم الدنيا في الترتيب على مستوى العالم بصفة عامة (مع اختلافات نسبية من دولة لدولة) بل إنه مع شديد الأسف فإن الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص لا تزال ترزح تحت وطأة الأمية بمفهومها البسيط، فما بالنا بمفهومها المعقد الحديث، وكذلك فإنها ترزح تحت وطأة الأمراض والأوبئة والتلوث وانخفاض مستوى تحمل المسؤولية وانخفاض بل وانعدام الإنتاجية وكذلك انخفاض الاعتماد على الذات سواء كان ذلك بالنسبة للأفراد والجماعات وكذلك انخفاض مستوى الحرية وحقوق الإنسان مقارنة بشعوب العالم المتقدم.
والتنمية البشرية بمفهومها اليوم ذهبت لأبعد من حدود تنمية الذات وتوفير الحدود الأساسية من مأكل ومشرب بل شملت حقوق الإنسان بمفهومها الواسع في ماله وفكره وقيمه ومعتقداته بل وأصبحت المنظمات والمؤسسات العالمية كالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وتقاريره السنوية عن التنمية البشرية المختلفة تواجه طلبات كبرى وتحديات عظمى في التقارير السنوية والدورية لحالة التنمية البشرية في القارات وفي الدول بشكل تفصيلي ويعتبر مؤشر التنمية البشرية مقياساً على تقدم الدول في الجانب الإنساني الذي هو الأساس في عمارة الأرض واستثمارها واستمراريتها والارتقاء بها.
ثانياً: تحدي النظام الأخلاقي والقيمي السائد اليوم
وبقدر ما هناك من تطور وتقدم مادي وتكنولوجي مذهل في العالم الغربي على وجه الخصوص بقدر ما هناك من تحدٍّ في كيفية التعامل مع ما يرتبط ويتزامن مع أصحاب هذه الحضارة فهي سمة التعالي والفوقية وعدم العقلانية في الأحكام الأخلاقية على الآخرين من الأمم ممن يخالفون أو يختلفون في تقييم القضايا والناس ولو أخذنا على سبيل المثال ما يجري في ضوء ما يشاهد ويلاحظ من سيطرة الدول القوية عسكرياً واقتصادياً وعلى رأسها أمريكا وأوروبا أصبح هناك اختلال في المعايير والموازين الأخلاقية التي يتم بها الحكم على الأشياء والأحداث إلى أن أصبح هناك مصطلحات تسمى بازدواج المعايير الأخلاقية في الحكم على الصراعات بين الشعوب والدول Double Standards Of Morality. فإن العالم ليذهل ويقف حائراً وخاصة العالم المستضعف بما فيه أمتنا العربية والإسلامية حيث يصدر مجلس الأمن قرارات وواحداً تلو الآخر لدولة إسرائيل للانسحاب من الأرض المحتلة أو لإيقاف عدوانها على الفلسطينيين في غزة أو من قبل في الضفة وهي لا تعير تلك القرارات أي اهتمام لا لمجلس الأمن ولا حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة فهي مجالس لا تحرك ساكناً في مواجهة الطغيان والظلم. بل على العكس نجد الدول صاحبة القوة (Power Holders) ترفع عصاها الغليظة على أي دول أو منظمات تحررية ضعيفة أو مسكينة يصدر منها أي موقف دفاعي ولا تذعن لما تأمر به هذه القوى. إنها تكيل له الصاع صاعين وتظهره على أنه مخالف ومخترق للقانون الدولي، وهكذا نجد معايير ومكاييل مزدوجة تجعل العاقل حائراً وتفضي إلى اختلال وصراعات قيمية ليس لدى الشعوب والدول فحسب بل وحتى على مستوى الأفراد حيث الأفراد نتائج مناخهم وبيئتهم فبقدر ما هم مؤثرون فيها وهو تأثير مهم وبطيء بقدر ما هم متأثرون بها ومشكلون من خلالها.
ثالثاً: تحدي التغيير الاقتصادي
World Economic Change
إنه لم يعد هناك أحد في العالم بأسره لم يتأثر بالأحداث الاقتصادية الأخيرة سواء كانت ممثلة في غلاء الأسعار أو انهيارات الرهن العقاري أو البورصات أو خلافها؛ فالاقتصاد هو عصب الحياة وبدونه لا يستطيع أن يعيش الإنسان، بل إن تأثير الوضع الاقتصادي العالمي الذي انطلقت شرارته من الوضع الاقتصادي الأمريكي أخذ يترك ظلاله على مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية والتربوية والحياتية، بل إن الكثير من الدول والتكتلات بدأت تعيد خططها الاقتصادية والسياسية للسنوات المقبلة تبعاً وانعكاساً للأحداث الحالية، فالوظائف وسوق العمل ودعم المشاريع والاستثمارات والدعم الاستهلاكي والدعم الصحي والدعم الغذائي ودعم التكنولوجيا والأبحاث وغيرها لا تنفصل عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية. إن تبعات التغيرات الاقتصادية قد أدت وسوف تؤدي إلى تعطيل وتأخير التنمية البشرية للكثير من دول العالم، بل إن الآثار السلبية لهذه التغيرات النفسية والاجتماعية والأخلاقية على مستوى العالم بصفة عامة وعلى مستوى دول العالم العربي على وجه الخصوص أكبر من أن تعد أو يشار لها في هذا المقال؛ ولذلك فإن هذا التحدي يستوجب المواجهة المدروسة الجادة من قبل الدول العربية والإسلامية بما تستحقه من أهميه وخطورة.
رابعاً: تحدي التغير السياسي والأيديولوجي في أمريكا (أكبر وأعظم قوة مؤثرة في العالم)
حيث عهد أوباما الذي اعتبر أنه إيذان بحقبة مهمة في مسار تاريخ العالم اليوم ليس لأنه تغير أسماء أو رؤساء كما هو المعتاد أو المألوف بل تغيير في اتجاهات وقيم ومعتقدات وسياسات وحتى استراتيجيات ذلك؛ لأن رجلا أسود من الأقلية الأمريكية من أب مسلم وجذور إفريقية يتولى زمام الأمور للعملاق العالمي لأول مرة في التاريخ. إنه حدث له دلالات كبيرة جداً تأثر بها وسوف يتأثر بها العالم بأسره حيث العالم يعيش في ضوء هذه التغيرات ويتفاعل معها ويعتنق فلسفتها أو من يتعايش معها أو يسير في ركبها، ولا أظن أني أبالغ إذا أسميت هذه الحقبة التي قادت وستقود إلى تغيير جذري في قيم وتركيبة الأمة الأمريكية بزعامة أوباما إلى (الأوبامية Obamatizm)؛ لأنها مخاض لصناعة ثقافة ولوجه مختلف لأمريكا (التي قادت وتقود العالم وإلى ما شاء الله) وأن الطبقات الوسطى أو المحرومة في أمريكا سوف تتأهل للحصول على حقوقها التي حرمت منها لسنوات طويلة بالاعتماد على الشكل أو العرق، كما أن الطبقات العليا أو المحتكرة للسلطة والتسلط سوف تضطر للتنازل عن تلك الخصوصيات وتتراجع إلى مساحات أقل وأضعف وهكذا ولكن يظل الولاء والانتماء هو للثقافة والمجتمع الأمريكي الذي يعتبر المجتمع الذي قد حوى وبنجاح وبقوة العديد من الأعراق والأجناس ومن كافة الخلفيات وأذابها في وعاء واحد وهو ما يطلق عليه Melting Pot Society حيث يمكن اعتبار هذا الذوبان لهذه الأعراق والأجناس في تمام اكتمالها بانتخاب باراك أوباما رئيساً لها. إن هذا التغيير والتحدي المؤذن بتغير لعصر جديد سوف يجعل هناك تحديا أمام أمم ومجتمعات وشعوب العالم الآخر لأن الثقافة الأمريكية بمنتجاتها الصناعية والتكنولوجية وحتى أنماط الحياة قد سادت وغزت العالم بأسره فلا نكاد نجد بلداً أو مدينة ليس فيها ما يشير إلى وجود العم سام مثل مطاعم ماكدونالد أو كنتاكي أو غيرها بل وحتى الملابس التي نشاهد الكثير من البشر يرتدونها هي من النمط إن لم يكن من الصناعة الأمريكية وشبكة الاتصال العنكبوتية Internet بمحركات البحث فيها ببرامجها المختلفة وهي من إنتاج وتصدير أمريكا. والسيطرة الفضائية سواء كانت ممثلة في الأقمار الصناعية الاستكشافية لأغراض علمية أو مراقبة الأرض، أو في تضييق المساحة الكروية في الاتصال والبث هي أيضا من معطيات الحضارة الأمريكية وحتى الاقتصاد الأمريكي أثبت أنه اللاعب الرئيسي في اقتصاد العالم سلباً أو إيجاباً كما تمت الإشارة إلى ذلك. والثورة العلمية ممثلة في الابتكارات والاختراعات المختلفة التي تشهد بها جوائز نوبل أو غيرها هي في معظمها في حوزة الأمريكان.
إن التحديات السابقة التي تواجه العالم اليوم والتي سوف تلقي بظلالها ربما إلى منتصف القرن الحالي هي ما يجب أن يفرد له ويخصص العديد من الكتابات بل والندوات واللقاءات والمؤتمرات التي يتمخض عنها مشاريع وبرامج وسياسات وخطط خمسية أو عشرية أو أكثر لدولنا فردية أو إقليمية ليصار منها إلى مواجهة التحديات ليس بالتكيف معها أو معايشتها والتفاعل معها فقط بل وللإسهام بإيجابية في التأثير فيها وتحديد هويتنا من خلالها جنباً إلى جنب مع دول العالم المتقدم، وحتى لا نجد أنفسنا في عجز تام أو شلل كلي في مواجهة أبسط الظروف والمشاكل التي تواجهها الأمم الأخرى ويتغلبون عليها بل ويواجهون المستقبل باقتدار وتحدٍّ ولاسيما أن لدينا من المقومات التي لا تتوافر لسوانا من أمم في رفعتها وعلو شأنها بل ولا أبالغ إذا قلت إن لدينا في دول العالم الإسلامي والعربي من الفكر والمادة والموقع ما يفوق ما لدى غيرنا ممن تفوق علينا في تأثيره ومكانته بين الأمم. وإذا جعلنا هذه التحديات وغيرها أولويات في حياتنا لموجهتها والتعامل معها فسوف نستطيع التغلب على صراعاتنا واختلافاتنا وتأخرنا في ركب البشرية بل وستتحول مجمعاتنا المستهلكة للفكر والصناعة إلى متفاعل ومنتجه، ولكن كل ذلك لن يتم إلا من خلال تغيير ما بأنفسنا امتثالاً لقوله تعالى: { إِنَّ اللّه لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (سورة الرعد:11).
zozmsh@hotmail.com