Al Jazirah NewsPaper Wednesday  11/02/2009 G Issue 13285
الاربعاء 16 صفر 1430   العدد  13285
عودة الحروب العادلة!
روبرت سبيمان

 

حين لاح شبح الحرب في سماء كوسوفو منذ عشرة أعوام، أوضح يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا آنذاك، أن المبدأ الذي كان يحكم انخراطه في السياسة دوماً هو: (لا للحرب؛ ولا لمعسكرات التعذيب والاعتقال!). بيد أن التطهير العرقي والعنف في كوسوفو سرعان ما أكدا له أن تلك اللحظات كانت من اللحظات التي يتعين على المرء فيها أن يختار بين هاتين الضرورتين: ففي بعض الأحيان قد لا يكون هناك سبيل إلى منع وجود معسكر اعتقال وتعذيب غير الحرب.

لقد عادت فكرة (الحرب العادلة) التي تستمد شرعيتها من (قضية عادلة) لكي تتحول إلى موضة الموسم من جديد، رغم ازدرائها لأعوام طويلة.

كانت هذه الفكرة محل امتعاض واعتراض لأن أي طرف متحارب يميل إلى النظر إلى قضيته باعتبارها قضية عادلة. فضلاً عن ذلك، ففي عدم وجود قاض نزيه فلسوف يظل بوسع المنتصر دوماً أن يفرض (حقيقته) على المهزوم، كما حدث بموجب معاهدة فيرساي بعد الحرب العالمية الأولى.

رغم أن (الحروب العادلة) قد عادت من جديد، إلا أن القانون الدولي أيضاً عاد إلى إدانة شن الحروب العدوانية (غير العادلة) باعتبارها جريمة تستحق العقاب، في ظل الإجماع على أن كل طرف متحارب الآن يعلن أن حربه كانت بغرض الدفاع ضد هجوم أجنبي، تماماً كما فعل هتلر في العام 1939. (الحقيقة أن كل وزراء الحربية تحولوا الآن إلى وزراء دفاع، الأمر الذي لابد وأن يدفع المرء إلى التساؤل عن أي الطرفين يستحق أن ندافع عنه ما دام لم يعد هناك أي مهاجمين).

ولكن في هذه الحالة أيضاً يفترض المنتصر لنفسه الحق في تحديد الطرف المعتدي.

وعلى هذا فمن حسن الحظ أن هتلر لم يخرج من حربه منتصراً.

لا شك أن التدخل العسكري لأغراض أبعد من الدفاع عن البلاد يظل أمراً وارداً، إلا أنه يتطلب استصدار قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

ومجلس الأمن فقط، ما لم يعترض أحد أعضائه الدائمين، قادر على اتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت حرب ما مبررة شرعياً بقضية عادلة (وهذه الشرعية تتلخص اليوم عموماً في الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان).

وهذا يعني أن (السيادة)، بمفهومها في القرن السابع عشر، تظل حقاً من حقوق البلدان الأعضاء دائمة العضوية في مجلس الأمن، أي أنها قادرة على (ارتكاب أعمال الشر مع الحصانة ضد العقاب).

ذلك أن حق التدخل على أساس إنساني يؤدي إلى الحد من سيادة كافة البلدان الأخرى.

وخلف كل ذلك تكمن فكرة مفادها أن احترام حقوق الإنسان من الممكن أن يُفرَض من الخارج، هذا فضلاً عن الأمل في أن يتحسن سلوك الحكام حين يدركون أنهم قد يتحملون المسؤولية عن انتهاك حقوق الإنسان.

حتى الآن لا نستطيع أن نجزم ما إذا كان هذا الأمل مبرراً.

وفي الوقت نفسه فإن عودة فكرة (القضية العادلة) تحمل في طياتها قدراً عظيماً من المخاطرة، وهو ما يتجلى بوضوح حين تقرر إحدى القوى العظمى ارتداء عباءة حماية حقوق مواطنيها في بلد مجاور، كما حدث في جورجيا.

وإذا ما صمدت هذه الفكرة فإن الأقليات الروسية من البلطيق إلى القرم قد تشكل قنابل زمنية موقوتة.

إن مبدأ (الحياد الأخلاقي) الذي يحكم قانون الحرب يقوم على الاعتراف بأن الحروب لن تزول أبداً، وعلى ذلك فلابد من الحد منها والتخفيف من أهوالها من خلال قواعد سلوكية قابلة للتطبيق عالمياً.

ولأن مبدأ الحياد الأخلاقي كان على وجه التحديد أقل طموحاً من مبدأ (الحرب العادلة) فقد حقق نجاحاً هائلاً في تخفيف أهوال الحرب عن طريق حظر بعض الأنواع غير الإنسانية من الأسلحة، وإرغام الجيوش على حماية المدنيين وكفالة المعاملة الإنسانية لأسرى الحرب، وحظر ضم الأراضي المحتلة، إلى آخره.

في كتابه الشهير (الحرب والسلام)، نَظَر ليو تولستوي الرجل المحب للسلام إلى تهذيب وتشذيب الحرب على هذا النحو باعتباره سلوكاً مرائياً.

إذ كان يعتقد أن الحروب لا ينبغي أن تحدث على الإطلاق.

ولكن من ناحية أخرى وجدنا تولستوي وقد خرج علينا بمبررات غريبة لاندلاع الغضب العام على نحو غير مقيد أو منظم وذبح الجنود الفرنسيين المتراجعين على يد الفلاحين الروس.

ولابد أن ماو كان قد يوافقه الرأي.

إن محبي السلام يريدون أن يفهموا الحرب باعتبارها حالة خروج على القانون ولابد من منع وقوعها من الأساس.

ولكن أولئك الذين يدركون أن الإنسانية لن تنجح أبداً في منع الحروب يسعون بدلاً من ذلك إلى احتواء الحروب وإضفاء مسحة (إنسانية) عليها.

ولقد مارس باباوات القرون الوسطى هذه الحكمة حين حددوا الحروب المسموح بها بأوقات معينة من السنة.

بيد أن أي نمط من أنماط (آخر الحروب) لا يعترف بإمكانية اعتبار تلك الحرب كسابقة لتبرير حرب أخرى في المستقبل.

ومثل هذه الحروب سوف تظل دوماً بلا قواعد، وسوف تظل دوماً حروباً شاملة.

فلا شك أن كل القوانين تتعطل حين يتحول الأمر إلى موقف حياة أو موت.

وعلى هذا فإن الهدف من القانون الدولي لا يتلخص في حظر الحروب (غير العادلة) والسماح بالحروب (العادلة)، بل إنه يتلخص في ضمان شن الحروب بغرض تحقيق غايات محدودة، حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة ويفلت الزمام.

فلابد وأن يكون بوسعك أن تخسر ولكن دون أن تخسر كل شيء.

والحقيقة أن لغة العدالة والظلم، والاستسلام غير المشروط، والعقاب الجنائي للمهزوم فقط، لا تشجع إلا على الحروب الشاملة - بل وتحض عليها في واقع الأمر.

وعلى الجانب الآخر من تجريم الحرب (العدوانية) سنجد حقيقة مفادها أن السلام أيضاً لم يعد الآن يشكل حالة قانونية يمكن الاعتماد عليها ولا تنتهي إلا بإعلان رسمي للحرب.

فحين يقرر زعماء الدول أن يقصفوا مدينة مثل بلغراد دون أي إنهاء رسمي لحالة السلم، فإنهم لا ينخرطون في الحرب، بل في شكل من أشكال إرهاب الدولة.

إن الإرهاب سوف يسود إذا ما نجح في إصابة العالم المتحضر بعدواه، وإذا ما لجأ زعماء الدول إلى الإرهاب لمحاربة الإرهاب.

إن مكافحة الإرهاب ليست حرباً، وذلك لأن الإرهاب ذاته لا يشكل طرفاً محارباً، بل إنه في الحقيقة يشكل وسيلة لتحقيق غاية.

وحين يقع الإرهابيون في الأسر فإنهم يخضعون للعقوبات الجنائية ويعاقبون بموجب القانون.

إن البلدان غير الراغبة أو غير القادرة على منع أعمال العنف الإرهابية المنبعثة من أراضيها تخسر حقها في السلامة الإقليمية، ويصبح بوسع الآخرين أن يعلنوا عليها الحرب لاستئصال المشكلة من جذرها.

ولكن هؤلاء الذين يتمسكون بشعار (الإرهاب لا يمكن مواجهته إلا بالإرهاب) لابد وأن يتذكروا أن أول من أطلق هذه العبارة كان أدولف هتلر.

***

روبرت سبيمان أحد كبار فلاسفة الروم الكاثوليك، وأستاذ الفلسفة بكل من جامعتي ميونيخ وسالزبورج. حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - معهد العلوم الإنسانية، 2008م

www.project - syndicate.org
سالزبورج - خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد