كثير من الناس لا يقبل أن يفكر فيما تقوله إليه، ويعتقد أن ما يحمله داخل عقله من أفكار هي المثال والنموذج الذي يجب أن يحتذى به في كل كبيرة وصغيرة، وتجد أولئك الناس يتصدرون المجالس بقوة الكلام، والهدف من الكلام مجرد الحضور بين جموع الموجودين من حوله، ولا يجرؤ أحد أن يعارض ما يقول، وإلا فالمعارض هو المخطئ على طول الخط، وربما يستعدي عليك الموجودين لكي يؤكد أن كلامه هو فقط الصواب..
..وحين تُحدَّث بعض الفاهمين لقواعد النقاش أو التفكير أنه عند المناقشة حول أمر من الأمور ليس مطلوباً -بالضرورة- الوصول إلى تغليب رأي على آخر، بل الهدف فيما أعتقد هو الوصول إلى بنية صحيحة لتناول جميع مناحي الفكر والحياة. وليس مهماً أيضاً أن تقول ما يفهمه جميع الناس، بل المفروض أن تقول ما تعتقد فيه، وتتحمل نتائجه، فمنذ مدة قصيرة قرأت مقالاً للكاتب خالد القشطيني على الصفحة الأخيرة في صحيفة الشرق الأوسط يتناول موضوعاً يحمل قصة كاملة (ترميزية)، وفي نهايتها أضاف وجهة نظره هو، والتي تدعم ورود القصة في مقاله، أعجبتني فكرة المقال، لكن في الأسبوع الذي تلا قراءتي لهذا المقال، قرأت مقاله التالي وإذا به يعترف أن القصة ليست من الموروث الشعبي، وإنما وردت إليه في رسالة عبر البريد الإلكتروني فأعجبته وأعمل فيها قلمه، واعترف الكاتب بحق صاحب القصة الأدبي في ذكر اسمه، وإعلانه تنازله عن مكافأته التي سيتقاضاها من الصحيفة عن المقال إلى صاحب القصة الأصلي، بل وأضاف أنه يعلن متابعته لصاحب القصة نظراً لأهمية فلسفته في الكتابة، بينما كثير من الكتَّاب لا يهتم عمن كتب أو يعيد الفضل إلى أصحابه، وكثير من الكتاب المشهورين يجعل له كاتباً من الباطن يكتب له مقالاته، ويضع اسمه عليها، بل والأدهى أن ذلك يحدث في أروقة الصحافة العربية، وقد يُصدر بعضهم كتاباً واثنين وثلاثة خلال عام واحد، وحين تنظر إلى محتوى كل كتاب تجد ما فيه قيِّماً، لكن حين تواجه هذا الكاتب الفحل بأنه لا يمكن لبشر عادي أن يكتب كل هذا الكم بهذا الكيف، تجده يقلب الاستفهام إلى معركة، ولا بد أن يكون كلامه بالضرورة هو الصحيح والمُصدَّق، فهذا هو الكاتب المشهور الذي يكتب اسمه على صفحات الصحف والمجلات بخط سميك، وربما يشار إليه بالبنان، والقراء (المساكين) يعتقدون أنه (فلتة) عصره، ولا يعرفون حقيقة ما يكتبه ولا من أين يأتي به.
مرة أخرى نعود إلى تغليب وجهة نظر القائل مهما كانت تحمل الكثير من الشوائب التي لا يقبلها عقل ولا منطق، فنجد أيضاً ظاهرة التربص بكل ما هو جديد مخالف لما يراه (المتربص)، ويحاربه، ويظهر أموراً يبينها على أنها عيوب في الجديد المبتكر، حتى وإن كانت غير موجودة أصلاً، لكنه بأنانية متعمدة لا يريد أن يتحدث أحد إلا هو، ولا يُسمع إلا رأيه، وكأنه الآمر الناهي على بوابة المعرفة الإنسانية، ونسي أو تناسى أن المعرفة لا حدود لها ولا شاطئ.
وكما أن هناك صنفاً مما وصفته بالأنانية تجد على الجانب الآخر من نهر المعرفة أناساً حقيقيين يعرفون أنه طالما هناك رأي، فلا بد أن تكون هناك وجهة نظر أخرى لا تتوافق مع ما يرونه من حقيقة، فيبدءون النقاش الديمقراطي القائم على قبول الآخر قبولاً منطقياً لا قبولاً مفروضاً بفلسفة (الحكواتية) الذين يسودون صفحات المطبوعات العربية بما يتقيؤونه من جمل وعبارات؛ إما محفوظة أو ملقنة أو بها غريب اللفظ فارغ من المعنى، ليوهم الجميع أنه يحمل بين كلماته الجديد المبتكر، لكننا في الحقيقة لا يمكن أن نسمي أمثال هؤلاء إلا ب(الحكواتية) الذي يواكبون ويركبون أي موجة خلافية بين دولة وأخرى، أو بين رأي وآخر، أو حتى بين زملاء المكان الواحد.
أولئك (الحكواتية) هم المقصودون تماماً بفرض وجهة نظرهم رغم أنف كل معترض، والغريب أن هؤلاء لهم رواج كبير فيما بيننا، بل ويفرضون وصايتهم على منهج في الفكر ومنهج في الكتابة، والإعلام العربي القائم على (الوساطة) يستضيف أناساً على شاشات الفضائيات هم أبعد من يكونون عن الثقافة والإبداع أو حتى الأدب، فحين يستضيف برنامج شخصاً لم نسمع عنه أبداً، وإذا سمعنا، أو قرأنا فلا نجد فيما يقوله إلا كل غث، ونراه متصدراً هذه الشاشات باعتباره (بروفيسوراً) في جميع المجالات ليفتي هنا وهناك من دون دليل أو قبول المختلف معه، وحين نرى تسول بعض الكتاب من الصحف والمجلات ليكتبوا وفق سياسة ربما لا يعتنقون أفكارها أو لا يفهمونها من أجل المال، أو من أجل العلاقات الخاصة، وحين نجد تجاهلاً للكثير من المفكرين الحقيقيين لتصبح الساحة المعرفية الآن هي على طريقة فضائيات العري، تكشف ما لا ينبغي كشفه، نجد أن الجهل قد عمَّ، ورجوعنا مئات الخطوات إلى الوراء قد تحقق بفضل وجود هؤلاء بيننا، ولا نزال نبكي الأطلال إلى الآن ونتذكر زمناً كان فيه عمالقة حقيقيون في جميع المجالات حين كان القطاع الأكبر من القائمين على الإعلام بمختلف وسائله يسعون لتقديم الأفضل لا إلى تقديم المجاملات، ووفقاً لمنهج وسيلة الإعلام سواء كانت صحيفة أو مجلة أو قناة فضائية، فكل يعزف على وتره من دون رؤية حقيقية لجميع الأوتار المشاركة في العزف الحياتي الأصيل الباحث عن الحقيقة مهما كانت لتعريتها وكشفها والوصول إلى السليم منها وإلقاء الفاسد بعيداً عن سلة العقل لتستقيم الأمور، على كل من يختلف معي في هذا التفكير الاعتراض على ما أكتبه، وأهلاً به!
aboelseba2@yahoo.com