كيف نحول وثيقة حقوق الطفل التي وقعت عليها المملكة عام 1996 م إلى حقيقة معاشة يتمتع بالعيش ضمن ضماناتها القانونية جميع أطفال المجتمع السعودي بمختلف مناطقه وفئاته الاجتماعية؟.
كيف نخرج تلك المبادئ السامية في حق الأطفال التي تلتقي مع روح التشريع الإسلامي من برودة الورق وظلام الأدراج وبهرج الندوات والمؤتمرات التي تعقد من أجل الطفولة وندخلها كل بيت ونعطيها الحرية لتمشي في الشارع رافعة الرأس؛..
كيف نجعل منظومة حقوق الطفل محكا للتعامل اليومي مع الأطفال؟!
وهنا، لابد من المصارحة بأننا لازلنا بعيدين نسبياً عن تطبيق هذه الوثيقة.
وفي هذا أطرح اقتراحا محددا بأن تبادر المملكة عبر جميع الجهات الرسمية المعنية بشؤون الطفولة وعبر السماح بتأسيس جمعيات أهلية من المجتمع المدني لشئون الطفل بحملة وطنية مستدامة للتوعية القانونية والتربوية بحقوق الطفل على مستوى التعامل اليومي مع الأطفال في المدرسة والبيت والشارع والمستشفيات ومؤسسات المجتمع الأخرى ذات العلاقة بالطفل السعودي.
مع الإشارة إلى أنه لو قامت حملة وطنية ناجحة لحفظ حقوق الأطفال وجرت التوعية بها واتخذت إجراءات مجدية لتطبيقها فعليا بشكل عملي ومقنع ونفاذ يحفظ كرامة الأطفال؛ فقد تتحول المملكة بمثل هذه المبادرة إلى نموذج خليجي وعربي يحتذى في مجال تطبيق حقوق الأطفال بما يجعلها تسمى مملكة الإنسانية عن استحقاق وليس لمجرد الدعاية والإعلام.
وفي هذا، بودي أن أطرح مجموعة من المشاهد التي يعيشها الأطفال على مدار الكرة الأرضية، وإن كانت تفاصيلها قد تختلف من مجتمع لآخر حسب حالة السلم أو الحرب التي يعيشها المجتمع وحسب دوره على المسرح الدولي اقتصادياً وتقنياً ومعرفياً وحضارياً, كما قد تختلف تفاصيل تلك المشاهد من فئة اجتماعية إلى أخرى حسب موقع الفئات على السلم الاجتماعي من حيث الفقر والغنى والعلم والجهل والتمكين أو الاستضعاف إلا أن غالبية هذه المشاهد تلتقي في التعبير عن صوت الأطفال وأحلامهم في أن يعيشوا طفولة إنسانية عادلة وكريمة مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وبعد أن مضى على الإعلان العالمي الملزم للدول الأعضاء المعروف بوثيقة حقوق الطفل من الأمم المتحدة عشرون عاما (1989هـ).
ومع أن هذه المشاهد تقع تحت سمعنا وأمام أبصارنا مجتمعات وأفراداً يومياً فإنه نادراً ما يجري الالتفات إليها، وإن جرى الالتفات إليها فإن الأندر أن يجري التصدي لها بالوعي الاجتماعي أو بالحماية القانونية. ولذا فإن كتابة هذه المشاهد - وليس الاكتفاء بالكتابة عنها- هو محاولة لتحويلها من مشهد عابر إلى مشهد موثق بالحبر على الأقل؛ علّنا نقلع عن مجرد اعتبارها جزءاً من المشهد الاجتماعي المقبول عن عدم معرفة أو عدم اكتراث لننظر إليها بعين نقدية تكشف عما في تلك المشاهد التي (تعودنا على اعتبارها مشاهد عادية) من اعتداء على حقوق الأطفال وهدر لآدميتهم، أو في أحسن أحوال حسن النية استخفافا بأهمية مرحلة الطفولة في حياة الإنسان وبأهمية أنها مكون أساسي من مكونات مستقبل الأوطان.
يوتيوب الطفولة
- على طريق الملك فهد، وهو يعتبر من الطرقات السريعة والمكتظة في نفس الوقت وخاصة في أوقات الذروة سجلت في دقيقتين ونصف فقط خمسة مشاهد من الاستخفاف بحياة الأطفال. طفل لم يتجاوز السادسة من العمر وحده في السيارة بجانب السائق يدلي الطفل نصف جسده الصغير خارج نافذة العربة. طفل لم يتجاوز العام يجلس أمام المقود على حجر أبيه الذي يسير على الخط اليسار وهو الأسرع من خطوط (الهاي ويه). سائق يدخن في سيارة مكتظة بالأطفال في المقعد الأمامي ونساء في المقعد الخلفي. طفل لا يزيد عمره عن ثلاثة عشر عاما بالكاد يمكن تبين رأسه يقود سيارة هاي لوكس (أبو عراوي) بجانبه رجل (شايب) أما صندوق العربة المكشوف فمحشور بالنساء وأطفال يكادون أن يطيروا كلما "نتع" السائق الصغير الذي لم يغادر الطفولة بعد بفرامل السيارة.
- أسرة تسير بسرعة في السوبرماركت يسير خلفها مجموعة أطفال لا أحد ينتبه للطفل الذي زاغت عينيه وهو يصرخ بعد أن اختفوا عن ناظريه.
- طفل آخر تضعه (أمه أو أبوه أو إن شئتم الخادمة أو السائق) واقفا في (عربة المقاضي) وتترك لطفل أكبر منه بقليل يدفع العربة بعيداً عن مرافقه الراشد برعونة ويضحك، بينما الطفل الصغير يصرخ بهلع دون أن ينتبه الأهل أو يعير المارة الأمر أيّ اهتمام إلى أن يخرس ارتطام الطفولة برخام الأرضية صوت الأطفال.
- خادمة تدفع نصف درزن أطفال أمامها إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة من عمر الرضيع إلى عشر سنوات يتناوشونها وكأنها شجرة في عاصفة، بينما تضطر المسكينة في محاولة يائسة لتهدئتهم أن تحشوهم بالسكاكر والأيسكريمات والبطاطس وبلاستيك اللحوم التي تقطر زيتا. لا أحد ينتبه إلى تفشي السكر المبكر في دمائهم ولا أكوام الكولسترول تحتل صمامات قلوبهم الصغيرة.
- جزء من المشهد السابق عندما تفلت الرضاعة من يد (البيبي) إلى الأرض ترفعها السيدة العاملة دون أن تنتبه لتلوث (الرضاعة) بالفيروسات وتدسها في فم الطفل.
- (شغالة) أو مرافقة صغيرة لا يزيد عمرها على عشر سنوات تساعد طفلة في عمرها إلا أنها ضعف جسمها عرضاً وطولاً على لبس الحذاء ونقل الحقيبة.
- رجل طويل عريض بشوارب مفتولة- في مقتبل العمر- يقف بطوله أمام طفل لا يزيد عمره عن ست سنوات، يصرخ فيه بأعتى الشتائم وأقذع الألفاظ ورذاذ لزج يتطاير من (فوهته) ويحط على وجه الطفل. بينما عيون الطفل المغبونة برعب تلاحق حركات الرجل وأصواته المندفعة، وكأن فراشة مذعورة ترتعد أمام عملاق بأنياب. لا يستوعب الطفل سبب الغضب ولا يفهم من تلك الألفاظ الجارحة إلا كلمات جوفاء لا يلبث بعد لأي أن يحاول ليّ فمه الصغير ليقلدها.
- أمٌّ تعود من عملها متعبة أو أخرى تريد أن تتفرغ لزيارة جاراتها أو لبعض الوقت تقضيه على (الشات بالانترنيت) تحشر أطفالها من مختلف الأعمار لساعات تجر ساعات أمام فيلم (توم أند جيري) أو سواه من أفلام كرتون التخدير السريع، وبعض صغارها لم يتجاوز العامين. لو التفتت قليلا لرأت كم منظرهم يبدو بائسا وهم يتابعون حركة الكرتون بعيون جامدة وعدونية مكبوتة لا تلبث أن تتفجر تجاه بعضهم البعض، وهم يتابعون الدروس الأولى في الاستهانة بالوقت والتفريط في الطفولة.
- أطفال يعانون من الإعاقة وسخرية الأقران دون توجيه يذكر من الكبار, أطفال يقلدون عنف الشارع أو المنزل أو المدرسة اللفظي أو البدني بتشجيع من الكبار من منطلق أن الحياة غابة يجب أن يتدرب فيها الأطفال على تطبيق قول (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب). أطفال يعنفون من المدرسين أو الآباء لأنهم يملكون القليل من جرأة الأسئلة. أطفال ينبذهم الأقران لأنهم يتميزون بالصدق أو بالتهذيب أو بالعادات الصحية في الأكل. أطفال يمارسون التمييز فيما بينهم على أساس اللون أو النسب والنوع أو سواها من أسباب الفصل والفرقة الاجتماعية حسب ما يحاول أن يحرفهم عن براءة الطفولة بعض الكبار بما يحشونهم من أفكار تغلق أكمام البراعم وتمنع عنها الشمس والهواء قبل أن تتفتح.
دعوة لمساهمة الشباب في استعادة الطفولة
هذه قطرة من بحر بعض ما يجرح الطفولة ويفرط في حقوقها من خبرات الأطفال اليومية المؤلمة التي تحتاج إلى تصحيح الوعي بها؛ لإعادة الاعتبار لكرامة الطفولة وحقها في المرح والمعرفة وفي الحب والحنان والتربية بأساليب حضارية. وهذا ما أريد للشباب أن يشاركوني به. أريد لمن يجد في نفسه القدرة والموهبة لننجز هذه المشاهد في شريط سينمائي أو تلفزيوني لنخرجها من دائرة المقبول الاجتماعي وقول (عادي) لنضعها تحت مجهر النقد. إذ إننا كلنا بلا استثناء قد نقع تحت طائلة مشهد من تلك المشاهد أو سواها ونحن نتعامل مع الأطفال لذا كان لا بد من مشاهد تنقض (المسلمة الأساسية) أو النسق أو البراديم الذي لا يرى في الطفولة مرحلة تستحق الاحترام.
نحو عمل للتوعية بحقوق الطفولة يشارك فيه الأطفال
أخيرا ،أقفل هذا الموضوع وأفكر: كم كتابا يمكن أن يكتب الأطفال مثلما فعل إسماعيل بيه في كتابه (الغياب الطويل) عن جرائم الحرب والحرمان في حق الطفولة من تجربة طفولته بسيراليون لو أراد هؤلاء الصغار أن يكتبوا عن بعض تجاربهم اليومية من المظلمات التي قد يرتكبها في حقهم أقرب الأقرباء والأوصياء، ومن في حكمهم من الآباء والأمهات إلى المعلمين والأطباء وحتى كُتَّاب الأطفال فيما يظنون عن جهل أو عدم اكتراث أنهم يحسنون صنعا بأن يربوا الأطفال على الطاعات العمياء أو على الجبروت أو الخرافات أو سواها من أشكال تسيء للطفولة من حيث تريد الإحسان.
وأختم بسؤالين، أرجو أن أجد لكل منهما إجابة شافية وألا يضيعا أدراج الرياح:
السؤال الأول: من يمكن من جهات الاختصاص الرسمية أن يبادر إلى مثل هذه الحملة الوطنية ؟
السؤال الثاني: من يشاركني الطفولة بعمل يشارك فيه الأطفال أنفسهم لاكتساب حقهم في الحياة الكريمة من الصحة إلى المرح، ومن الحب إلى الاحترام. بانتظار المبادرات الشابة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com