لا أعتقد أن عاقلاً منصفاً إلا ويتمنى أن يعيش العالم كله بدون ظلم. لكن هذا العالم منذ أن خلق الله الإنسان وهو حافل بالظلم والظلمة. ولقد عبَّر عن هذه المشكلة كثيرون، ماضياً وحاضراً، وكان من أولئك شاعر إحدى المعلقات الحكيم، زهير بن أبي سلمى، ...
|
قبل أكثر من خمسة عشر قرناً حين قال:
|
ومَنْ لم يذد عن حوضه بسلاحه |
يُهدَّم ومن لا يظلِم الناس يُظلَم |
وما كان أبو الطيِّب المتنبي إلا متفقاً مع سلفه زهير في نظرته إلى تلك الحقيقة حين قال:
|
والظلم من شيم النفوس فإن تجد |
ذا عفة فلعلة لا يظلم |
ولعلَّ ابن أبي سلمى أقرب في طرحه وأوضح بالنسبة لقضية أمتنا الأم: وهي قضية فلسطين. ذلك أن كل ما ارتكبه أعداؤها في مشرقها من جرائم ذات طابع تمزيقي، أو احتلالي، مرتبط كل الارتباط بتلك القضية، وإن حاول دعاة الإقليمية المتنامون عدداً في الآونة الأخيرة ترسيخ ما يهدف إليه أعداء أمتنا.
|
إدراك الشاعر زهير حكيم زمانه هو إدراك المؤمنين المخلصين، الذين ابتليت أوطانهم باستعمار كريه ظالم غربي الجهة مسيحي المعتقد، إن لم أقل متصهين النزعة والميول. لقد أدرك هؤلاء المؤمنون المخلصون أن المقاومة المسلحة هي أنجع الوسائل لنيل الحقوق المسلوبة. ولذلك هبت طلائع حركات التحرير في أقطار متعددة من أقطار أمتنا، فما وهنت ولا استكانت لما أصابها في سبيل تحقيق أهدافها.
|
لقد أدركت تلك الحركات، قادة وجماهير، أن الحرية حسناء من خطبها لم يغله المهر. وما حركة تحرير الجزائر إلا مثل من أمثلة رائعة لبواسل خطبوا الحسناء، ولم يبخلوا بثمن، فنالوا ما عقدوا الحزم على تحقيقه، وهو أن تحيا الجزائر. والجهاد على أرض فلسطين المباركة، التي ابتليت بأبشع أنواع الاستعمار له عظمته، صبراً وعطاء. ولقد أدرك القائمون به أن الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لا يمكن أن يجابه مجابهة إيجابية إلا بالمقاومة المسلّحة. ذلك أن الأمل المعقود على هيئات دولية يهيمن عليها المتصهينون، ممثلين بالدرجة الأولى، في إدارات أمريكا المتعاقبة، هو أمل من يلهث وراء سراب بقيعة. ولقد عبّرت - كما عبّر كثيرون غيري - عن ذلك قبل أربعين عاماً بالقول:
|
كل القرارات التي صدرت |
وتعاقبت من هيئة الأمم |
بقيت كما كانت بلا أثر |
ولا خففت بؤسي ولا ألمي |
مفعولها حبر على ورق |
ووجوها ما زال كالعدم |
لم يبق لي حلم بقدرتها |
عشرون عاماً بددت حلمي |
وبعد تلك القصيدة التي منها الأبيات الأربعة السابقة، بخمس سنوات؛ أي في عام 1973م، قلت من قصيدة على لسان جندي مصري بعث برسائل من الجبهة إلى أمه:
|
أمي تبرمت من ذلي ومن دعتي |
وهاج في دمي الإصرار والثأر |
ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني |
وإن تصغهن أهرام وأخبار |
تعاقب السنوات الست أوضح لي |
ضلال من جنحوا للسلم واختاروا |
وأن تحرير أرضي لا تحققه |
إلا دماء سقتها الأرض أحرار |
وتبني المقاومة المسلحة لا يعني - بطبيعة الحال - عدم التفاوض مع المحتل الظالم إذا كان مستعداً لأن ينهي احتلاله، ويعيد ما سلب من حقوق ويكفِّر عما ارتكبه من جرائم. وأكثر حركات التحرير في العالم كله - إن لم يكن جميعها - لم ترفض مبدأ التفاوض حتى كان سبيلاً إلى نيل الحقوق كاملة غير منقوصة. وكان قائد منظمة التحرير الفلسطينية يرفع البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى. وهذا هو الموقف الصحيح؛ تماماً كما فعل قادة حركات تحرير عديدة. غير أن من نتائج اتفاقية أوسلو أن البندقية أسقطت من اليد التي كانت ترفعها، ولم يبق إلا غصن الزيتون بعرض أمام عدد لم يخطر يوماً ببال زعمائه أن يركنوا إلى سلم حقيقي؛ وهم الذين رسخت في قلوبهم عقيدة تأبى إلا أن يستسلم لها من احتلوا أرضه، وظلوا يهددونها؛ شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً. ولم يقتصروا على ما كسبوه نتيجة تلك الاتفاقية من التسليم لهم بشرعية ما احتلوه من أرض فلسطين قبل عام 1967م؛ بل تمادوا في تهويد ما احتلوه بعد ذلك التاريخ. وآل مصير قائد منظمة التحرير الفلسطينية نفسه، الذي وقع على تلك الاتفاقية، ونال بذلك جائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع المجرم رابين، إلى ما آل إليه من حصار، ثم وفاة الله أعلم بظروفها وملابساتها الحقيقية.
|
إن أغلبية الشعب الفلسطيني اختارت برنامجاً من أسسه اتباع نهج المقاومة سبيلاً لاستعادة الحقوق؛ وبخاصة أن الجميع رأوا أن المفاوضات السلمية، التي لم تشفع بمقاومة مسلحة، لم تؤد إلا إلى زيادة في تهويد الأرض المحتلة.
|
وكما كان متوقعاً لم يقبل زعماء الكيان الصهيوني مجيء حماس؛ زعيمة للمقاومة، إلى الحكم، وعدوها منظمة إرهابية. وما كان الاستعمار في يوم من الأيام إلا ناعتاً لكل حركة تحرير بأنها إرهابية. وما دام الصهاينة لم يقبلوا مجيء حماس فإنه لم يكن متوقعاً إلا أن يوافقهم على موقفهم قادة أمريكا المتصهينون. وما دام قد اجتمع الطرفان اللذان هما وجهان لعملة واحدة فإنه لم يكن منتظراً من زعماء الدول الغربية بعامة إلا أن يقفوا الموقف نفسه. على أن الأهم هو أن من خسروا ثقة أغلبية الشعب الفلسطيني في الانتخابات التشريعية لم يقوموا عملياً بما يتفق مع ما قالوه في بداية الأمر.
|
ولأن الصهاينة ومن يشايعونهم لا يطيقون أن تقوم للمقاومة قيامة، سجن أكثر ممثلي حماس في المجلس التشريعي بمن فيهم رئيس هذا المجلس، واغتيل من اغتيل من رموز المقاومة، وضرب حصار مميت على قطاع غزة. ثم ارتكبت المجزرة التي هدفها الأساسي القضاء على مقاومة الشعب الفلسطيني، وتعاون مع أعداء أمتنا من تعاون كي تتخذ كل التدابير لمنع وصول أي قطعة سلاح يدافع بها المقاومون عن أنفسهم ووطنهم، وأصبح المهم لأولئك الأعداء والمتعاونين معه إنهاء المقاومة لإنهاء القضية الفلسطينية. والليالي يلدن كل عجيب.
|
|