كنا في طفولتنا المبكرة نُلقَّى الحكم والمثال والأبيات الشهيرة غير أنا لا ندري ما المعاني ولا المقاصد، والذين يُفيْضون علينا بتلك الدرر لا يُتْبعون ما يفضون به شرحاً ولا تفهيماً، ولسنا بقادرين على الاستيعاب إذ ذاك لو أنهم فعلوها، والمُنْسأ له في أجله المُتَفَّسحُ .....
|
له في مجالس العلم يَدَّكر بعد أمة موقع الشاهد ومكامن الدلالات منها، فبعد ما اشتد ساعدي تبدت لي من محفوظاتي دلالات ما كنت أعرفها من قبل، وإذ يكون التَّعلُّم في الصغركالنقش على الحجر فقد ظل محفوظنا قريب المنال كلمات اقتضت الحال تداعت الدرر لتشد العضد، ومما أدركت من كلام التلقينات الأولى قول الشاعر:
|
(لا تقطعن ذنب الأفْعى وتَتْركها |
إن كنت شَهْماً فأَتْبع رأسَها الذنبا) |
وبَدَهيٌّ أن النوازل التي تغمرنا بمعضلاتها مُدِرَّةٌ للذاكرة تَحْلِبُ أشطرها لتدفق بالآيات البينات والاحاديث المحكمات والأبيات الشوارد والحكم الأوابد والأمثال السَّوائِد تضيء عتمتها:
|
(ولَوْلا خِلالٌ سَنَّها الشعر ما دَرَى |
بُنَاةُ المعالي كيفَ تُبْنىالمكارم) |
لقد تداعت تلك الخواطر على الذاكرة بعدما أعلنت (وزارة الداخلية) عن المطلوبين الذين نيفوا على الثمانين ممن غُرِّر بهم وغُسِلت أدمغتهم وزُجَّ بهم في بؤر التوتر تحت مسمى الجهاد وطلب الاستشهاد، ومن الآلام الممضة أن وراءهم آباء وأمهات لا يرقى لهم دمع ولا تهدأ لهم نفس، وكم يتمنون أن تظفر بهم السلطات عسى أن يعودوا إلى رشدهم ومع ما هم عليه من تقصير بحق أمتهم ودينهم وتنكر لوطنهم فإننا وإياهم موصوفون بقول الشاعر:
|
(إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها |
تذكرت القربى فسالت دموعها) |
في ظل هذا الخبر المفزع والمحزن تذكرت والذكرى مؤرقة قول الشاعر:
|
(إن كُنْتَ شهماً فَأَتْبع رأسها الذنبا)
|
وقلت في نفسي: مَنْ الرأس؟ ومن الذنب؟ أيكون أبناؤنا رؤوساً أم أذنابا؟ وما قيمة الأذناب إذا فاتت الرؤوس؟ إن الراصد للأحداث يُدركُ أن المضلين للشباب هم رؤوس الأفاعي. وبفواتهم فوات الحسم للقضية الأهم، وخطورة المضل أنه يَدِبُّ إلى طريدته كما تدب النملة السوداء على الصفاة السوداء في ظلمة الليل، بحيث لا يراه ولا يسمعه إلا من عرف الأيام معرفة المجرب الخبير:
|
(ومن عرف الأيام مَعْرفتي بها |
وبالناس رَوَّى رُمْحه غَيْرَ راحم) |
فأي الحزبين أخطر على الأمة: صناع الجريمة أم منفذوها؟ وكم هو الفرق بين غَرْف السَّواقي ورَدْم المنابع (ومن قصد البحر اسْتَقَلَّ السَّواقِيا) وإن كان ثَمَّةَ عَرَضٌ لمرض فإن هؤلاء الشباب هم عرض المضلين الذين يتخطفون السذج والمتسطحين ويقعدون لهم كل مَرْصد، ولقد حذر البرُّ الرَّحيم من دعاةِ السوء على أبواب جهنم، وجلساء السوء يُدّمِّرون الأفكار كما يدمرون الأخلاق، وبدهي أن الوقاية خيرٌ من العلاج فمطاردةُ الخارجين علاجٌ والتنقيبُ عن المضلين وقاية. فهل وازنا بين الفئتين : الضالة والمضلة؟ وهل أحد منا يقدر خطورة الكامنين في أرضنا كمون الداء العضال في الأجساد، وما أضر على الأمة أن يَرمَّ الجرح على فساد.
|
والأمة أمام نوابت السوء مطالبة باحتثاث الجذور التي تمد الشباب بالغي، ولن تَحْول دون فساد الأفْكار إلا إذا قطعت الأثداء التي يلتَقمها المغفلون، ظناً منهم أن فيها الغذاء والشفاء، إذ ما من شاب بادر الضلال دون مُضِل، ومتى عُرِفت الأوكار قُطع دابر المغررين، وشباب الأمة أثمن ثرواتها، والشباب الذي يفارق الجماعة تحت أي مسمى يفقد ذاته وتفقده أمته، ويترك بمفارقته ثنيته التي حثه الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظها وحَذَّره من أن يؤتى الإسلام من قبله وبمبارحته لها تكون منفذاً للمفسدين في الأرض وحجة زائفة ضد مناهج التربية والتعليم في بلاده وسُلماً يستشرف من خلاله الطامعون عورات الأمة، ثم لا يكون لديها مزيد من الجهد والوقت لحمل الرسالة وأداء الأمانة وعمارة الكون وهداية البشرية، لأنها والحالة تلك مهيضة الجناح. وكأني بالمستهدف برسالتها الإنسانية يردد: (عليكم أنفسكم).
|
وشبابنا الذين يخرجون من ديارهم للجهاد وطلب الشهادة لم يتلقوا ذلك التضليل من تربية ولا تعليم، فمناهجنا بأيدٍ أمينة ومؤسساتنا الدينية أبْعَد المؤسسات عن الخطاب التعبوي أو التحريضي، وعلينا أمام هذا الاختراق الخطير ألا نَنْشَغِل بالعرض المتمثل بالشباب المفارق للجماعة، بل لابد أن نأخذ بالنواصي الكاذبة الخاطئة التي أضلتهم عن سواء السبيل، ولما تزل تعمل في الخفاء مُسْتغلة الغفلة والطيبة وحسن الظن وانطفاء الحس الأمني عند المواطن وظنه الكاذب بأن رجل الأمن هو وحده المسؤول عما يجري في البيوت والأسواق من خروقات أمنية واختراقات لوحدة الفكر، وكأني بهذا الصنف الاتكالي من الناس يجهل أو يتجاهل مقولة الهادي الأمين: (كلكم راعٍ) ولم يقل بعضكم راعٍ، وهذا النداء تحذير للأمة من الغفلة والاتكالية التي يتناسل منها دعاة السوء، والأمة كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. فأين نحن من هذا الإحساس المشترك، إن الضال والمضل أناسٌ مثلنا يعيشون بيننا وواجبنا أن نستقرئ الرِّيبة في ملامحهم، ولقد قيل: (كاد المريب يقول خذوني) ولو أن المُريبَ عَرَفَ نباهة الأمة لضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولو أن العلماء والمعلمين والخطباء ورجال الحسبة وأولياء الأمور والكافة من العامَّة عرفوا أن الشباب كالأرض الموات يَسْتَنْبتها من يَسْبق إليها ما اسْتَبدَّ المفسدون بالأرض وتخطفوا أبناءنا من بين أيدينا وزجوا بهم في أتون الفتن وبؤر التوتر ولما وَدَعُوهم يشوِّهون سمعة أمتهم ويَسْتعدون عليها الطامعين بخيراتها المتميزين من الغيظ على ما حباها الله به من نعم ظاهرة وباطنة، والاتهام الجائر الذي تروجه الوسائل الإعلامية المشبوعة لم يقف عند حد الكيان السياسي للأمة بل امتد إلى الإسلام، فالأمة المسلمة حين لا تستطيع أطر أبنائها وترشيد مسارهم وتصحيح مفاهيمهم تكون قابلة لأي اتهام، وذلك ما حصل بالفعل.
|
لقد وُصِف الإسلام بالتطرف وحُمِّل جرائر الإرهاب وأصبحت الأمة الإسلامية مَظِنَّة الاتهام الجائر مما اضطرها إلى استنزاف كل طاقاتها للدفاع عن سمعتها وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن رسالتها في الحياة، وبُعْد مبادئها وتشريعاتها عن الإرهاب، وكيف تزيغ قلوب المغرضين بحيث يصفون الإسلام بما يناقض مقاصده؟ وكيف يَتَأتَّى لهم ما أرادوا وتعاليم الإسلام تنطوي بداهة على التسامح ولين الجانب وإجارة المشرك والوفاء بالعهد والوعد حتى أنه لا يجوز للمسلم أن يخون من خانه، وتكاثر الخارجين على السلطات المشروعة أتاح فرصاً ذهبية للأعداء المتربصين الذين يحرفون الكلم من بعد مواضعه، والأمة لكي تجفف المستنقعات، وتقطع دابر الشر لابد لها أن تتحرف لمواجهة شاملة دقيقة وأن تتحيز للفئات التي تُنقب في البلاد عن أوكار الخديعة والتغرير عن عصابة الشر التي تتقنع بالدين، وتبدي حرصها على إقامة الشعائر، وهي الأبعد عن منهج الله.
|
إن في أسواقنا ومؤسساتنا ومدارسنا من يظن كل الظن أن الانحراف الفكري تَلَبُّسٌ ذاتي يصير إليه الشاب بإرادة حرة وقناعة ذاتية ومن ثم لا يمتد الخوف والحذر من وإلى دعاة السوء الذين يستدرجون شبابنا من حيث لا يعملون.
|
لقد نجح رجال الأمن بالكشف عن الخلايا النائمة والوصول إلى فلول الإرهاب في أوكارهم في عمليات استباقية والحيلولة دون المساس بالأمن، ولم يبق إلا الوصول إلى رؤوس الأفاعي التي تنفث سمومها وتتخطف الشباب وتزين لهم سوء أعمالهم وتُجندهم للإفساد في الأرض، وتلك مهمة جماعية يبتدرها الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والمعلمون والمعلمات ورجال الحسبة وكل من له عينان ولسان وشفتان، فذل الجهاد الحقيقي بل هو الجهاد الأكبر الذي رجع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من ميادين القتال إنه الجهاد المفروض على كل مقتدر، لأن العدو اقتحم علينا بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وأسواقنا وخطف من بين أيدينا فلذات أكبادنا، ولو أدرك كل مواطن مسؤوليته ونهض بمهمته لأخرجت الأرض خُبثها ونَفَتْه كما تَنْفي النار خَبَثَ الحديد.
|
|