كانت بريطانيا طوال العقد الأخير من القرن المنصرم أحد الملاذات الآمنة للإرهابيين. كل من أراد أن يتآمر على وطنه، أو يجعل من نفسه مُصنّعا، ومُصدّراً للإرهاب إلى كل بقاع الدنيا، كانت بريطانيا هي المكان المناسب ليعمل فيه، ويدير منها أعماله، ويحرض، ويصدر الكتب والمنشورات. وكان الإنجليز يظنون أنهم في منأى عن أخطار هؤلاء، وأن وجود الإرهابيين لديهم هو عامل قوة لهم في مواجهة كثير من الدول العربية، و(ابتزازهم) سياسياً، وتمرير مصالحهم في هذه الدول من خلال التهديد بهذه المعارضة الإرهابية. ولم يتنبه البريطانيون إلى الخطر حتى التفت الثعابين لتنهش لحم الحاوي. فالتفجيرات التي شهدتها لندن في يوليو 2005 خلطت الأوراق على الطاولة، وأثبتت أن اللعب بالورقة الأيديولوجية المتطرفة، ومحاولة توظيفها لخدمة المصالح لعبة غير مأمونة العواقب؛ فالثعبان هو الثعبان دائماً، لا تأمن لدغاته حتى ولو تولى التعامل معه الحواة المحترفون.
موافقة محكمة بريطانية على تسليم محمود أبوعمر الملقب ب(أبوقتادة) للأردن دفعت بقضية تسليم الإرهابيين الإسلامويين لبلدانهم إلى السطح من جديد. كانت السلطات البريطانية قد حاولت ترحيل (أبوقتادة) إلى الأردن التي يحمل جنسيتها، إلا أن محكمة الاستئناف رفضت ذلك خشية تعرضه للتعذيب، كما جاء في أسباب الرفض حينها. غير أن قراراً صدر مؤخراً من مجلس اللوردات، أعلى سلطة قضائية في المملكة المتحدة، يقضي بالموافقة على الترحيل، جعل محامي (أبو قتادة) يلجأون إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية للحيلولة دون تسفيره، وكما يقول المتخصصون فإن هذه الخطوة لا ينتظر لها النجاح، بعد أن وقعت الحكومة البريطانية مع نظيرتها الأردنية مذكرة تفاهم تقضي بتعهد الحكومة الأردنية في حال استلام المتهم ألا تخضعه للتعذيب.
ومهما كانت التبريرات، والتخريجات القانونية لتسليم أبوقتادة، فإن الذي لا تخطئه العين أن هناك توجهاً (جاداً) لدى البريطانيين للتخلص من أفاعي الإرهاب، وتطهير أرضهم منها. فقد أظهرت النتائج أن الخطأ الذي مارسه الأمريكيون عندما تبنوا هذه الأفاعي في مواجهة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، مارسه البريطانيون أيضاً عندما جعلوا من بلادهم ملاذاً لكبار أساطين ومنظري الإرهاب، فارتد عليهم في يوليو 2005 تماماً كما ارتد على الأمريكيين في 11 سبتمبر 2001م.
محاربة الإرهاب تتطلب محاصرته ومحاصرة أساطينه في كل مكان. وبالذات في المناطق التي يستغلون فيها القيم المتحضرة، مثل الحق في حرية التعبير، لتصدير أفكارهم وعفنهم، وتحريضهم على زعزعة الأمن في بلادهم. أبوقتادة مثله مثل أبوحمزة المصري والمسعري وسعد الفقيه وآخرين يحمون أنفسهم في بريطانيا بحقوق الإنسان، ويتدرعون بحرية التعبير، وهم أول من يدعون إلى هدر الدم، والدعوة إلى العنف، ومصادرة حقوق الإنسان، وإن بطرق ملتفة، وأساليب ملتوية، في بلادهم، تقرأ هذا بكل وضوح في تفاصيل خطابهم السياسي التعبوي. ولا يمكن البتة تجفيف منابع الإرهاب حتى تسيطر على دعاة ومنظري ثقافة الإرهاب. هذا ما اقتنع به البريطانيون على ما يبدو متأخرين. إلى اللقاء.