لا تزال رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لتحويل المملكة إلى مجتمع معرفي قادر ومنتج تعطي ثمارها تباعا. وتعتبر البدلات والحوافز المادية المعلنة مؤخرا لصالح أعضاء هيئات التدريس في الجامعات السعودية, من أهم العوامل التي ستؤثر إيجابا في مخرجات العملية .........
...التعليمية؛ باعتبارها المحرك الرئيسي للنهضة، وينتظر أن تكون لهذه الخطوة الموفقة من الحكومة انعكاسات كبيرة, على المستوى الفردي وعلى المؤسسات التعليمية. هذه الحوافز ستكون إن شاء الله عونا للأستاذ الجامعي على العطاء, حين يكون مطمئنا, وقد تحقق له دخل كريم وحوافز فعالة. والكليات العسكرية في المملكة تعتبر كليات جامعية, وتضم مناهجها نسبة كبيرة من التعليم المدني, يقوم على تدريسه وإدارة شئونه نخب من أعضاء هيئات التدريس من الأساتذة المدنيين, جنبا إلى جنب مع زملائهم العسكريين في هيئات التدريس والتدريب العسكرية.
وقد جاءت الزيادات والحوافز المالية الأخيرة لتسهم أيضا في رفع مستوى جامعاتنا في شتى المجالات، هذه الزيادات والحوافز المالية بجانب مجالات الدعم الكبيرة في شئون التعليم العام والتعليم العالي ستؤدي إلى المنافسة والقدرة الوطنية, عبر مخرجات التعليم. فالتعليم بمجمله هو خريطة طريقنا نحو مجتمع المعرفة, القادر على تحويل المعرفة إلى صناعة, وبالتالي جعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة, المنتجة والمكتفية والمصدرة بحول الله تعالى.
ومن المعروف أن ريادية الجامعات تعتمد على الرؤى الصائبة والاستراتيجيات المنطقية, وعلى كفاية الوسائل والمصادر, ولم يعد هنالك عذر لأحد حيث الرؤية السامية, والدعم السخي من حكومة خادم الحرمين الشريفين لمشاريع التعليم في المملكة.
ومن الطبيعي أن ينظر للأستاذ الجامعي على أنه الأساس في التغير والتطور للعملية التعليمية. وفي ظل هذه النهضة العلمية, فإن الكليات العسكرية تستحق أن تكون مستفيدة من هذه الرؤى التطويرية، ففي الكليات العسكرية أساتذة جامعيون مدنيون, سوف يتمتعون بهذه الحقوق المالية؛ وعليهم آمال كبيرة للإسهام في النهوض بمستوى الفكر العسكري والأمني الوطني, بنفس القدر الذي تسعى إليه الجامعات المدنية في مجالاتها المتعددة، كما أن الكليات والمعاهد العسكرية لا تقل أهمية عن مثيلاتها المدنية من حيث الحاجة إلى التطوير المستمر في مناهجها ووسائل تعليمها وجعل مخرجاتها في مستوى معطيات هذا العصر, ناهيك عن الأدوار المفترضة منها لخدمة المؤسسة العسكرية والأمنية.
وإذا كنا متفائلين وواثقين, ولدينا اليوم مؤشرات حقيقية بأن جامعاتنا سوف تحقق مكاسب كبيرة لصالح بلادنا فإن الأمل أيضا في الكليات العسكرية أن تستفيد من مناخ النهضة الراهنة لتطوير التعليم العالي. وأن تعمل على الاستفادة من الأساتذة المدنيين في هيئات تدريسها, بعد أن توفرت لهم الحوافز؛ وبعد أن نهضت الجامعات في خطط شاملة أبرزها مجالات البحوث العلمية والدراسات المتخصصة, من أجل الإبداع وتوطين المعرفة.
وأعرض في هذه المقالة على ما يمكن أن يسهم به أعضاء هيئات التدريس المدنيون في الكليات العسكرية لتطوير التعليم العالي العسكري لدعم المؤسسة العسكرية والأمنية السعودية. فالتغيرات والتحديثات في مجال الشئون العسكرية والأمنية على المستوى العالمي تسابق الزمن. وبتسارع وتيرة الحروب والأزمات العالمية تشهد المؤسسة العسكرية العالمية تطورا كبيرا في الفكر والوسائل, عبر التقنيات الفائقة والمعدات الحديثة والمتجددة. وكانت المرحلة الراهنة, لما سمي (بالثورة في الشئون العسكرية)، قد بدأت بعد حرب تحرير الكويت في عام 1991م؛ مما أحدث الكثير على فن وشئون الحرب عبر البحوث والدراسات. وتكمن الحاجة هنا إلى تطوير وترسيخ التجربة السعودية الثرية, في مجالات الشئون العسكرية المدنية والحربية والأمنية. وفي تلك الشئون ارتباط وثيق بالكثير من العلوم والفنون, مما يمكن أن يسهم به أعضاء هيئات التدريس المدنيون في الكليات العسكرية.
وليست الحوافز المادية الأخيرة سببا وحيدا في كتابتي حول دور الأساتذة المدنيين في العملية التعليمية العسكرية. ولكنها في الواقع فرصة مناسبة لإثارة هذا الشأن الوطني المهم الذي كنت وما زلت أفكر فيه بحكم ما تملية ديمومة التغيرات في الصناعة والثقافة العسكرية. وأكتب هذا استنادا إلى تجربتي الشخصية للعمل معلما في كلية ومدارس عسكرية لسنوات طويلة؛ ثم دراستي في كليات عسكرية عليا خارج المملكة, وكذلك الزيارات والاطلاع على مناهج وطرق عمل كليات ومعاهد عسكرية أخرى في بلدان متقدمة.
ومن المعلوم أن الكليات والمدارس العسكرية وبعض معاهد الدراسات العسكرية العليا تعتمد في تطوير مناهجها على المتغيرات الصناعية والسياسية والحربية. وتعتبر الدروس والتجارب المستفادة من ميادين القتال سببا رئيسا في إعادة تكوين بيئتها التعليمية. ونظرا لاهتمام المدارس العسكرية المتقدمة على البحوث العلمية, فقد سجل للمؤسسة العسكرية في الغرب والشرق السبق في كثير من الاختراعات, وكثير من فنون الإستراتيجية, والإدارة وفن القيادة. وتجدر الإشارة إلى أن أعضاء هيئات التدريس المدنيين, حملة شهادات عليا في تخصصات كثيرة؛ ومنهم خريجو جامعات مرموقة في دول الغرب، ولذلك فإنهم بلا شك أساتذة في طرق ووسائل البحث العلمي الذي يعتبر وسيلتهم لتطوير تخصصاتهم, وتحقيق درجات علمية أعلى. ولأعضاء هيئات التدريس من الخبرة الأكاديمية القدر المحترم للوصول إلى مصادر المعرفة الضرورية في مجالات تخصصاتهم ونقلها إلى بيئة عملهم في المجال الأكاديمي العسكري، وتعتمد الكثير من المؤسسات العسكرية في الدول المتقدمة عسكريا على الكثير من الباحثين المدنيين لتطوير مجالات عسكرية هامة.
وأعتقد أن قيادات الكليات العسكرية السعودية, ومعها أعضاء هيئات التدريس المدني يقفون اليوم أمام تحديات أكبر, للاستفادة من القدرات الأكاديمية المدنية, في ظل معطيات المعرفة المتوفرة التي تسابق الزمن في تطورها وتغيرها، ورغم ثقتي أنني لا أتحدث عن مخترع جديد, وتوقعي أن شيئا مما أعرضه هنا قد يكون متوفرا في بعض الكليات إلا أن من المناسب الإسهام وتسليط الضوء من فترة إلى أخرى, حول الجوانب الأكثر أهمية لتطوير الشئون العسكرية، فليس تطوير الشئون الأكاديمية العسكرية بمعزل عن التطورات العالمية في شتى العلوم والفنون، ومن يستطلع ذلك عبر محركات البحث في فضاء الانترنت عن مراكز الدراسات والأبحاث العسكرية والأمنية ذات الطابع الأكاديمي يقدر مدى أهمية مضاعفة ما لدينا لتتراكم خبراتنا وتصبح لنا مكتبة عسكرية وأمنية مكتفية عبر بحوث وتجارب وقناعات سعودية.
ويمكن لهذا المفهوم الذي أطرحه هنا أن يتبلور ببساطة عبر محورين أساسين متكاملين. الأول أن تكون بحوث ومتطلبات الترقية لأعضاء هيئات التدريس المدنيين في الكليات العسكرية موجهة قدر الإمكان لدعم المفهوم العالمي للشئون العسكرية الحربية منها والأمنية. والمحور الثاني, عبر تأسيس عدد من مراكز الدراسات المتخصصة في الكليات العسكرية لتصبح حاضنات لتطوير الكثير من المجالات ذات العلاقة بدعم المؤسسة العسكرية والأمنية. وهنالك تفصيلات كثيرة يمكن إضافتها من قبلي ومن غيري أيضا, لتوضيح المزيد من المجالات التي تستوعب الجهود الأكاديمية للأساتذة داخل الكليات العسكرية, بشكل فردي أو عبر المراكز المقترحة.
ومن المجالات المفترض بحثها ودراستها واستخلاص الدروس عنها, المجالات الفنية والعلمية كالاتصالات, والميكانيكا, والكهرباء, والالكترونيات, وجوانب ذات طبيعة عسكرية في مجالات الكيمياء, والفيزياء, واختبارات الوقود, والذخائر, والأسلحة, وغيرها الكثير في المجالات اللوجستية. أيضا دراسات التاريخ العسكري, ودراسات المعارك وفنون القتال, وتطور نظريات فن الحرب, وإدارة الأزمات, والإدارة وفن القيادة, والتجارب المعاصرة للقوات ودروسها المفترضة, ودراسات تطوير العهد واللوازم والملابس العسكرية, ودراسات تطوير المناهج, والدروس المستفادة من العمليات الراهنة, وغيرها الكثير من الشئون لا تتوقف الجيوش عن بحثها ودراستها واستخلاص العبر منها.
وفي حال تطبيق مفهوم هذه المقالة فإني أتوقع أن تتاح فرص كبيرة علمية وأكاديمية لأعضاء هيئات التدريس المدنيين في الكليات العسكرية، وستعود هذه الدراسات عليهم بالنفع المباشر في تطوير تخصصاتهم وترقياتهم, سواء عبر البحث الشخصي أو عبر عمل بحثي جماعي. كما أنهم سيقدمون لبلادهم الكثير من الفائدة في واحدة من أهم عناصر قوة بلادنا؛ وهي القوة العسكرية المعززة بسواعد أكاديمية وطنية. وما لم تعمل الكليات العسكرية على تطوير الواقع الأكاديمي في إطار مشابه لهذا المفهوم فإن بعضها لن تجد نصابا كافيا من الساعات المقررة لكثير من أعضاء هيئات تدريسها المدنيين. ولن يتوفر للكثير منهم المناخ الملائم للمنافسة والإبداع؛ وذلك ما يفقدنا فرصا بحثية هامة للكثير من المتميزين من حملة الشهادات العليا. وسوف تضطر بعض الكليات لاكتشاف أساليب إدارية غير مجدية أكاديميا لمنح بعض من الأساتذة نصابا كاملا يستحق بموجبه قدرا ماليا معينا.
ومرة أخرى كانت رؤية خادم الحرمين الشريفين وما زالت عاملا محركا للفكر نحو مستقبل أفضل, بمثل ما هي واقع ملموس اليوم ترتقي ببلادنا في شتى مجالات التنمية؛ وفي مقدمتها التعليم. والمؤسسة العسكرية والأمنية في أصول تنظيمها, وتجهيزها, وفعاليات قيادتها وسيطرتها, وعملياتها اليومية قائمة على أسس علمية. ولأنها تتطور وتتغير عبر دروس مستفادة وتجارب ميدانية وبحثية, فقد وضعت هذا المقترح مساهمة في خدمة المؤسسة العسكرية والأمنية, وثقة مني في الكفاءات الأكاديمية السعودية العاملة في المؤسسات التعليمية العسكرية. والله الموفق.
عضو مجلس الشورى
mabosak@yahoo.com