Al Jazirah NewsPaper Wednesday  25/02/2009 G Issue 13299
الاربعاء 30 صفر 1430   العدد  13299

ساعات مع سجل العطاء والوفاء
عبدالرحمن المعمر *

 

كل شيء في الدنيا له جانب إيجابي (حتى ولو لم يفطن الناس إليه) أسوق هذا الكلام مقدمة وتمهيداً, فموجة الشتاء القارس في العام الفارط جعلت الناس تنطوي وتنزوي وتلوذ بالغرفات قرب مواقد الدفء، ولمّا كانت أكثر كتبي التي جمعتها طيلة سنوات العمر تقبع في كراتين داخل مستودع قديم بعيدة عني (هكذا في ظلمات بعضها فوق بعض) وأنا أعيش فصل الشتاء في بلدة الهدا قرب الطائف أعتصم بين رؤوس الجبال يعيش معي ويساكنني في الدار شخص يطلق عليه اسم خادم لا يصلح لشيء حتى الخدمة !! عجيب والله هذا المخلوق...

لم يكُ حولي إلا بعض الكتب التي لا أعرف كيف فرّت من حبس مثيلاتها كنت أطالع في بعضها أتصفح من غير تفحص، أتعجّل من غير تأمل أستعرض الفهارس والمقدمات وما كتب عنها في أغلفة المؤخرات أحدّق في بعض الصور والرّسومات وأتأكد من مطابقة بعض الأسماء مع المسميات كان من بينها كتاب وصلني بإهداء وإمضاء من الصديق القديم والزميل الكريم الأستاذ خالد المالك مؤرخ في 13-11- 1998م كان ليل الشتاء وهدوء الهدا وشراب الزنجبيل، وشيء من صمت طويل، يغري مثلي بالقراءة لا الكتابة.

أعود إلى الكتاب الذي أهملته سنين وفرغت له بعد حين,كان الصديق خالد أعدّه وجمع مادته من عدة صحف يوم توفي والده حمد المنصور المالك - رحمه الله - بعد عمر قارب قرن من الزمان، تناولت الكتاب وأخذت أقلّب الصفحات استعرضت شيئاً من المقالات وقرأت بعض أشعار الرثاء أتخير منها شواهد لا شوارد، هالني صدق الحديث واتفاق المتحدثين عن الفقيد الراحل فقلت كيف فاتني التعرف على الرجل في حياته وأنا الذي كنت أُعجب بقصص الرجال الكرماء وأخبار الفضلاء والأخيار وكم تحدثت عن أبو سليمان الشيخ محمد الحمد الشبيلي الذي سارت بذكره الركبان وخلده التاريخ والزمان وكذلك عبد الرحمن عبد الحميد البسام الذي عرفته يوم كان يتدير لبنان والشام وعندي منه رسائل وغيرهما من الكبار.

هل ألوم الصديق خالد الذي لم يجمعنا بالوالد أم ألوم الظروف التي حالت بينهم وبين ما يشتهون، ما علينا من الماضي... أعود إلى الكتاب الذي بين يديّ الآن بطبعته الأولى التي صدرت عام 1998م في 386 صفحة بعنوان (حمد المنصور المالك 1332-1412هـ سجل حافل بالعطاء).

ماذا أقول وماذا أدع وأنا بين حشد من المقالات لكرام كاتبين وشعراء مجيدين فما الذي دفعهم للرثاء إلا الصدق والوفاء للرجل، بل أضيف: ودافع آخر هو أن يرى الجيل الجديد من الأبناء والقرّاء كيف كان السلف والآباء يستولون على قلوب الناس بصنع المعروف وإغاثة الملهوف ونجدة المحتاج في زمن لم يكن فيه صناديق برّ ولا جمعيات خيرية ولا مؤسسات مجتمع مدني...!

لا أستطيع أن أستعرض هذا السفر الكبير في وقت قصير لكن كما تقول العرب:

(من أخصب تخير)..

وما الخصب للأضياف أن تُكثِر القِرى

ولكنما وجه الكريم خصيب

في الصفحة 51 نطالع جيلاً من العمالقة بقلم منصور بن محمد الخريجي، في هذا المقال لفتات فيها لمحات وإيماءات تدور حول الفقيد مثل قوله (لكي أكون صادقاً فيما أقوله - وأنا أحاول دائماً قول الصدق فيما أكتبه أو أقوله وإلا فضّلت الصمت...).

وفي تقييم محايد للشيخ حمد يقول منصور الخريجي:(... لم يشغل أي عمل حكومي مثلاً لكي يترك أثراً من عمله الرّسمي في بلده، ولكنه ترك كبير الأثر في أسلوب حياته وديدن أعماله الاجتماعية النشطة بصفته مواطناً بارزاً في ذلك البلد، لقد نصّب نفسه لخدمة أهل بلده والقرى المحيطة بها، وفتح بيته لكل ذي حاجة، وهبّ لنجدة كل من قصده بشيء.

كانت داره طوال حياته الطويلة الكريمة مجمعاً لأعيان البلد ووجهائها، يتشاورون ويتعاونون على القيام بشؤون حياتهم وأمور بلدهم... ولم يكن إكرام الضيف بمثل السهولة واليسر الذين عليهما الحال الآن فقد مرت أيام عصيبة على القصيم وغيرها من مناطق الجزيرة العربية كان استقبال الضيف وإكرامه فيها أمراً لا يستطيعه إلا فحول الرجال، كانت الحياة في تلك الأيام شديدة القسوة، وشديدة البخل، ولا تستجيب إلا لأصحاب الهمم العالية، والإرادات الصلبة التي لا تلين).

وفي وصف لحياة أسرة المالك وعلاقاتهم الاجتماعية يورد منصور الخريجي واصفاً رأي زوجته بأسرة المالك فيقول: (ما من مرّة عادت زوجتي من واحدة من مناسبات المالك النسائية إلا وكانت في قمّة السعادة، وتؤكد لنفسها ولي أنها لن تفوّت مناسبة أخرى مالكية دون أن تحضرها، (لأنها لم ترَ أكثر مرحاً وضحكاً منهن)..

وينهي منصور الخريجي مقالته متذكراً والده: (وتذكرت والدي وقد خرج من الرّس شاباً بائساً ينشد رزقه في بلاد الشام البعيدة، وترك وراءه أمّاً حزينة تبكيه ليلها ونهارها، وكان الذي أقرض أبي الجنيهات الذهبية التي اشترى بها ذلولاً نقلته إلى وجهته هو الشيخ حمد المنصور المالك - رحمة الله عليهم جميعاً -.

ألم أقل لكم إنّ في مقال منصور لفتات جميلة والتفات إلى ماضينا وحنين إلى سابق حياتنا وبساطة عيشنا في بلداتنا إنها دعوة للأجيال من أبي نزار لتتبع سير الرجال وضرب الأمثال.

في صفحة 61 قصة تحكي وذكرى تنشر للدكتور إبراهيم بن محمد العواجي ساق فيها قصته وأخيه علي يوم كانا طفلين يدرسان بالصف الأول الابتدائي بالرّس عام 1365هـ ذهبا مع جدّهما المرحوم إبراهيم العبد العزيز الغفيلي إلى منزل حمد المالك قبل صلاة المغرب وتناولا معه العشاء ثم يصف صاحب الدار بأنه رجل فرض مكانته.

فيؤرخ لهذه الواقعة برباعية شعرية يقول:

كنت طفلاً ذات يوم يُذكرُ

لم أكن أدرك ماذا تقصدُ

حين أودعتَ بقلبي جذوة

ما انطفت يوماً وربّي يشهدُ

بابك الُمشرع في وجه الندى

قصة تُحكى وذكرى تنشدُ

شعلة للحب قد أوقدتها

حيّة يقبس منها الفرقدُ

لاحظوا البيت الثالث يصف الباب المفتوح حيث يلقاه الشاعر عبد العزيز بن عبد الله الرويس مؤكداً ومؤيداً:

واسع الدار كريم المنتدى

كم قرى للضيف كم واسى بمال

في الصفحة 65 نجد مقالاً لإبراهيم بن عبد الرحمن البليهي، هذا المقال يستحق الوقوف عنده والتأمل لا التعجل فيما انطوى عليه من نقد للمجتمع الذي لا يضع الموازين القسط ويعطي كل ذي حقٍ ما يستحق، ولإعجابي بإبراهيم البليهي ودقّته وصدقه مع ذاته لا أستطيع أن أتجاوز هذا المقال دون سوق النموذج والمثال يقول: (فليس غريباً إذاً أن يصدر كتاب عن واحد من أنبه رجال القصيم بل من أنبه الرجال على الإطلاق، فلئن كانت الظروف لم تسمح لحمد المنصور المالك بأن يتلقّى تعليماً نظامياً فإنه قد تخرّج من مدرسة الحياة القاسية، وكانت استعداداته الفطرية تتيح له أن يستخلص منها من الحكمة والمعرفة ما يزري بالنتائج التي ينتهي إليها الدارسون في التعليم الشكلي.

وينهي البليهي مقالته واصفاً الكرم الحقيقي الذي كان يتصف به جيل الشيخ حمد قائلاً:

(ليس الكرم هو المباهاة بالإبل باركة فوق الصحون ولا تبذير المال في النفج والتكاثر وإنما الكرم هو بذل المال في الملمات ولذوي الحاجة الذين لا يُنتظر منهم نفع ولا يُخشى منهم ضرر...). إنه يذكّرني ببيتين من الشعر لشاعرين مهجريين هما الشاعر القروي وزكي قنصل، يقول زكي قنصل:

يا باذل المال فيما لا يشرّفه

البخل والكرم المجنون سيّان

أما القروي فيقول:

بعض الندى كالبخل فيه معرّة

والسرّ في كيفية الإنفاق

في صفحة 83 مقال لاحظوا عنوانه الاستفهامي (ليس الأمير ولا القاضي فمن يكون..؟)

ألا يثير فضولكم وتعجبكم ويدعوكم للبحث عن جواب للتساؤل والسؤال عن هوية المعني بهذا الوصف والمقصود بهذا التوصيف، يقول صالح العلي العجروش- رحمه الله -:

في رحلة إلى القصيم سافرت مع عمّي - رحمه الله - مررنا بالرّس فقال عمّي ومن معه من كبار السن: سنسلّم على (ابن مالك) ثم نواصل السفر إن شاء الله انتظرونا في السيارة - قال عمّي - ونزل مع بعضهم من الركاب إلى حيث اعتاد ابن مالك أن يكون جالساً بعد أداء صلاة العصر وأمام بوابة ذلك البيت الكبير المشرع الأبواب، لاحظت أن كثيراً من الناس يدخلون وآخرين يخرجون وبعد دقائق من دخول عمّي ومن معه خرج علينا شاب يبدو أنه من أبناء الفقيد وقال: تفضلوا فردّ عليه السائق: سننتظر هنا ومع إصرار الشاب وتأكيده على أن عمّي ومن معه من الجماعة سيتأخرون فقد استجبنا لطلبه، ودلفنا من بوابة ذلك البيت الكبير فوجدنا أناساً كثيرين في (المجلس الرئيس) يتصدرهم رجل بشوش يرتدي مشلحاً وعقالاً وكل من دخل إلى مجلسه يبدأه بالسلام، وأثناء وجودنا جاء من يتخاصمون عنده ويطلبون منه الحلّ وغيرهم يطلب مساعدة وآخرون يتحدثون في أمور البيع والشراء والأسعار والأخبار وبعد ذلك نهض الشيخ وقال تفضلوا للعشاء وتقدمنا إلى المائدة المعدة في مكان مجاور وبعد العشاء ودعنا ومن معه وخرجنا بسيارتنا سألت من معي وكنت صغير السن لا أحيط بالأمور كما يجب هل هذا أمير الرّس ؟ قالوا: لا، قلت: إذاً هو القاضي ؟ ولكن القاضي لا يلبس عقالاً ! قالوا: ولا القاضي، وأخذ من معي يشرح لي من هو ذلك الرجل عرفت من عمّي ومن رفاق الرحلة أنه حمد المالك.

لماذا يجلس - رحمه الله - كل عصر أمام بوابة ذلك القصر الكبير؟ حتى لا يفوته ضيف يمرّ أو وفد وصل البلد، وعند قدماء أهل نجد وصف، وصفة لمثل هؤلاء الكرماء الذين يترصّدون للخطار آناء الليل وأطراف النهار إنهم يطلقون عليهم عبارة ظريفة محببة هي: (فلان معارض الطرشان) أي لا يفلت منه عابر سبيل ولا شخص جليل, إنه يراقب من يصل ويرصد من يَفدْ وهذا الطراز من الرجال موجود ولا يزال والحمد لله في كثير من بلداتنا وقرانا، أمّا المدن الكبيرة الواسعة فيَعذُر الناس بعضهم بعضاً لا بخلاً ولكن تقديراً للوقت ولهاث الحياة الكارب، عودوا لمقال صالح العجروش إن أردتم بقية القصة.

وفي الصفحة 117 يتحدث علي الصالح الضلعان عن جانب إنساني ويسوق حادثة وقعت له شخصياً: (وليس أدل على ذلك من أن بنتاً صغيرة لي تعرضت لحادث سيارة عام 1376هـ تسبب في وفاتها وتلك كانت مصيبة علينا وعلى من كان السبب في وفاتها وقد ضاقت السبل أمام من تسبب في الحادث وأظلمت الدنيا في وجهه فنصحه أقرباؤه بأن يذهب إلى الشيخ حمد المالك ويستنجد بالله ثم به ليساعده ويأخذ بيده في حل مشكلته فذهب إليه وشرح له حالته وكعادته وعد الرجل خيراً لأنه يعرف محبة والدي للخير ويعرف مكانته عند والدي لذلك نهض مسرعاً وأخذ بيد الرجل وتوجه إلى الوالد بعد صلاة المغرب من شمال البلد إلى جنوبها وهو في دوريته مع الجماعة في منزل حسين المحمد الفريحي لتعزيته ويطلب منه أن يعفو ويتنازل عمّا حدث، فما كان من الوالد - رحمه الله - إلا أن رحّب ترحيباً حاراً بالشيخ حمد وأشاد بقربه إلى نفسه وعلوّ مقامه لديه ومحبته، ثم أشهد الوالد الجماعة الحاضرين بأنه تنازل عما حدث في حقنا الخاص لوجه الله ثم تقديراً وإجلالاً لشفاعة الشيخ حمد، وقال: لو جئت لأكبر من ذلك لاستجبنا لوجاهتك لأن الوجاهة في سبيل الخير لا ترد وهي فضيلة ومبرة أكثر الله من أمثالك ووفقنا جميعاً لكل ما يحبه ويرضاه).

وفي الصفحة 123 نقرأ مقال حمد بن عبد الله الصغيّر, وقد عرفت كاتب المقال يوم زرت إقليم الأحساء العظيم وكان رئيساً للبلدية هناك كنت ضمن وفد مع فقيد العلم والفضل ومكارم الأخلاق الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي وقد سجلت تلك الرحلة.

أعود إلى مقال الأستاذ حمد بن عبدالله الصغيّر حيث ذكر لنا في مقالته موقفاً رأى أن يطلعنا عليه الآن: (زارت إحدى الشخصيات منطقة القصيم فدعاها والدي لتناول طعام الغداء فاستجاب لذلك بشرط أن تقتصر الدعوة على أدنى حد للمدعوين فما كان من الوالد إلا الموافقة والاستجابة للطلب مع عدم التنفيذ حيث يعلم أن صديقه الشيخ حمد المالك حين يعلم بقدوم الضيف وهو عزيز عليهما جميعاً فإنه سوف يحضر ويلبي الدعوة ولن يعود إلا وقد اصطحب معه الضيف لزيارة مدينة الرّس مقر إقامة الفقيد وفعلاً وقبل وصول الضيف العزيز كان الشيخ حمد المالك قد سبقه إلى منزل الوالد- عليهما رحمة الله - وقد أصر بعد الانتهاء من تناول طعام الغداء على اصطحاب الضيف إلى منزله بالرّس إنَّ هذا التصرف ينسجم مع ما اعتاد عليه - والدي وحمد المالك - وهو أنه عندما يأتي ضيف إلى منطقة القصيم من الشرق فإن الشيخ حمد يستقبله في البدائع، فيما يذهب الوالد إلى الرّس عندما يكون الضيف قادماً من الغرب).

في صفحة 135 مقال عنوانه: (حمد المالك الضيوف والعلاقات) لابن الفقيد سليمان وإن كنت أحاول أن أتجنب شهادة الأبناء, والأقرباء، وأركز على شهادة المعارف، والأصدقاء ولكن لا بأس أحياناً، فقد روى سليمان عن والده قصة تستحق أن تُروى ويُكَرر ذكرها ليقتدي بها الأحفاد والأسباط والمحدثون من الأولاد: كان من النادر أن يتناول - رحمه الله - عشاءه دون أن يشاركه ضيف أو صديق أو زائر أو قريب أو جار كما أنه ما إن يسمع أو يعرف أن هناك سيارة قادمة إلى الرّس - وقد كانت السيارات في البلدة لا تزيد على عدد أصابع اليد - حتى يطلب من أبنائه التعرف على ركابها ممن لا يقطنون مدينة الرّس ومن ثم إكرامهم والاحتفاء بهم وهو في هذا إنما يحرص على إعطاء أحسن الانطباع عن مسقط رأسه وكذا عن سكانها، في بداية الخمسينيات من القرن الهجري الماضي غادر فضيلة قاضي المدينة المنورة الشيخ محمد العلي التركي - رحمه الله - المدينة إلى الرياض على رأس وفد حكومي كبير وعندما اقتربوا من الرّس لم تتمكن سياراتهم من اجتياز وادي الرمة لغزارة الأمطار التي امتلأت به جنباته وبصعوبة بالغة تمكنت إحدى السيارات من اجتياز الوادي والوصول إلى الرّس وعند عودة الوالد من صلاة الفجر لاحظ وجود سيارة واقفة أمام منزله وعند اقترابه منها نزل الشيخ التركي وسلّم عليه وأعلمه بما جرى له، فرحّب به وبمن معه وعندما استقر بهم المقام في ديوانيته قال له الشيخ: يبدو أن الأمطار سوف تستمر ولن يكون بإمكاننا مواصلة سفرنا إلى الرياض، الأمر الذي لابد معه من أن نبقى بالرّس إلى أن تخف حدتها فهل من مكان يمكن أن نبقى فيه خلال هذه المدة؟

فقال له الوالد: يا شيخ هذا الكلام لم أكن أتوقعه منك وثق بأنه لا يوجد مكان مناسب ولو وجد فلن أسمح لكم بمغادرة منزلي إلا إذا خفَّ المطر وتأكد لنا أنه بإمكانكم مواصلة السفر وقد بقوا بضيافته ثلاثة عشر يوماً كانوا خلالها محل حفاوة الوالد وأمير وجماعة الرّس وأثناء وداعه لفضيلته قال له مقولة أهل نجد المشهورة: (استر على ما واجهت) فرد عليه في الحال قائلاً: إن سترت على ما واجهت فلا ستر الله عليّ لقد واجهت وقوبلت بالكرم العربي الأصيل من حمد المالك الذي استضافنا كل هذه المدة ومن أمير وأهالي البلد الذين أحاطونا بمشاعرهم الطيبة وكرمهم الذي سيبقى في ذاكرتنا ولن استر على ذلك بل سوف أتحدث عنه كلما كانت مناسبة للحديث.

وفي الصفحة 167 يصافحك مقال يستحق التوقف عنده، إنه يؤرخ بمرحلة مفصلية تحكي قصة تحول الرّس من التعليم الأهلي التقليدي إلى عهد المدارس النظامية لا أريد أن أختصر قصة هذا المقال فلا يطوى التاريخ في سطر ولا يجمع المجد في شطر فهو بقلم مدير أول مدرسة حكومية افتتحت في مدينة الرّس عام 1363 هـ وأحد الرجال الكبار الذين أسسوا للتعليم في بلادنا إنه المربي الجليل والشاعر المدرة والخطيب المفوّه عبدالله بن عبد الرحمن العرفج مد الله في عمره عرفته من زمن يوم تدير مدينة (جُدة) بالضم - كما ذهب إلى ذلك المرحوم عبد القدوس الأنصاري -، لا أحب أن أفسد عليكم قصة المقال بالتجزئة والاختزال ففيه من طرائف المفاجآت وجميل الذكريات وكيف يواجه الكبير التحديات (فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم) وللتدليل على وفاء العم عبدالله العرفج وحبّه لذكر الأسخياء لا أستطيع أن أتجاوز مرثيته الصادقة في الراحل أسوقها كما نشرت في الصفحة 259:

وقالوا مات ذو الإحسان زيد

ومات ابن المروءة والحياء

ومات اخو الشجاعة والمعالي

كذلك مات عمرو ذو السخاء

ومات مقارع الأبطال قيس

ومات الفيلسوف أبو العلاء

ومات الجود في موت ابن يحيى

ومات ومات كلّ الأوفياء

فقلت رويدكم ما مات زيد

ولا عمرو المروءة والحياء

ولكن مات من جُمِعت إليه

محامد في أولئك أو أولاء

محامد تنطق الأقوال فيها

بأفعال السماحة والفداء

سماحة ذي الوفاء لكل حيّ

وللوطن الفداء مدى البقاء

فيا حَمَد بن منصورٍ سلام

ورحمة مَن تعالى في السماء

رثاك الناس من قرب وبعد

وأنّى للسماحة من رثاء

بكى أهل القصيم بكل دار

برامة في أبان وفي الجواء

بدخنة بالبطاح وفي خزازٍ

بوادي الرّس في وادي النساء

بكت دار القصيم بكاءَ ثكلى

وكم لاقت عنيزة بالبكاء

بكوا عَلماً ببطن الأرض غابت

معالم شخصه عن كل رائي

يُغيّبه ببطن الأرض لحد

يضمُّ به سمات الكبرياء

ويبقى الذكر بالأبناء حياً

كما تبقى فصائل في الدماء

فكلهم ابن مالك في حجاه

وكلهم ابن مالك في السناء

وكلهم ابن مالك للدواعي

وكلهم ابن مالك في المضاء

فَنَم في اللحد مذكوراً بخيرٍ

سعيداً في الصباح وفي المساء

ورضوان الكريم تفوز فيه

تجلل عفوه يوم الجزاء

وما دمنا حول الشعر الذي لم تدعه العرب حتى تدع الإبل الحنين فلماذا لا نزيّن المقال ونريح الحال بشيء منه نجمّل به ذكرى كل راحل ونيسّر لمن يريد الاستشهاد في رثاء الأجواد.

يقول ابنه صالح حمد المالك صفحة 239 وهو الشاعر الذي طالما أتحفنا بخرائد وفرائد:

لهف نفسي على الذي إن ألمّت

نكبة لا تراه في القاعدين

لهف نفسي على الذي ما توانى

حين يُدعى لنصرة العاجزين

إيه يا شمس بلّغي كل شهم

إن شهم الرجال أمسى دفينا

بلّغي الأوفياء بأرضِ نجد

فُقد من عاش للوفاء خدينا

فُقد من عاش للغني صديقاً

ولذي الحاجة المُقلُّ مُعينا

وفي الصفحة 245 التقيت بشاعر فحل لم يعطَ حقه في الدراسات الأدبية، عرفته ولاقيته منذ أكثر من خمسين عاماً يوم كنّا نشارك في تحرير مجلة الجزيرة الشهرية ذلكم هو الشاعر الكبير بحق محمد بن عبدالله المسيطير الذي ذهب مأسوفاً عليه وعلى شعره الجيد ونثره المجوّد فقد كان له عنوان ينشر تحته بالجزيرة المجلة:(لو أدركنا نقصنا) هكذا كان الرجل يتناول قضايانا وأنا الآن بعد خمسين عاماً أقول هل ترانا (أدركنا نقصنا)؟!! أجيبوا أنتم لكن أصدقوا أنفسكم لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال القديم الحديث إلا واحد بحجم وشجاعة إبراهيم البليهي فليته يتصدى لهذا السؤال ويشفي صدورنا بمقال وهكذا الاستطراد أخذنا بعيداً عن نشيج الذكريات يقول المسيطير في بعض أبياته:

يصيب الناس في الحاجات شحُّ

إذا يعلو (وضيع) أو (لئيم)

متى ساد (الحياة) رفيق سوء

وأمدى في جريدته (الزنيم)

وجاهك يمنح الحاجات يسراً

إذا ضاقت وأحكمها الظلوم!

وفي الصفحة 255 يواجهنا شاعر من جيل المسيطير من رهط غير مفسد- بل - مصلح للتعليم إنه الأستاذ الراوية والمحدّث الباقعة عبد العزيز بن عبد الله الرويس الذي زار مدينة الرّس في أوائل الثمانينيات الهجرية أي قبل خمسين عاماً بالتمام في جولة توجيهية تربوية لمنطقة القصيم وقد التقى الشاعر بالشيخ حمد في منزله ودارت بينهما أحاديث وديّة أديرت معها تكرمة عربية وقد سجل ذكرى ذلك اللقاء قائلاً:

حمد المالك إن عد الرجال

فله من خلقهم خير الخصال

واسع الدار كريم المنتدى

كم قرى الضيف وكم واسى بمال

تُرجِع الأيام أقوانا إلى

عالم الضعف ومن ذا لا يطال

أما حمد المالك في الشعر الشعبي فقد عَقَدَ له معدّ الكتاب فصلاً إضافياً لا أستطيع أن أحيط به الآن ففيه عدّة قصائد وأراجيز غير مواجيز وألفيات غير قصيرات وبدائع من روائع شعراء عرفوا الراحل وجايلوه ولحسن أكثرها وطول بعضها آثرت أن أؤجل استعراضها.. وأحسب الصديق مؤلف هذا السفر لو أعاد طبعه من جديد فسيوافينا بالمزيد.

وفي الصفحة 329 يحدثنا الشيخ منصور بن حمد المالك عن وصية والده وقد ضمّت (22) فقرة كلها تدور حول أمور طالما تناقلتها الأجيال الماضية كابر عن كابر إنها الوصايا الذهبية التي لو وعاها أكثر الشباب لاراحوا واستراحوا إنها خلاصة تجارب فقه الحياة واختصار المتاعب وعناء اللهاث وراء الدنيا ولاعاعاتها لا أعني الكسل والقعود عن الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله لكن السعي فيها بقسط والحركة بتوازن واتقان.

أشياء لفتت نظري في هذا الكتاب:

لاحظت في الصفحات 159- 160 أن حمد المالك وطائفة صالحة من رجالات تلك الجهات المباركة في وطننا الغالي كانوا قديماً يقومون بأعمال تطوعية لم يجبرهم عليها أحد بل دفعهم إليها فطرة الخير المباركة في وطننا الغالي، في أنفسهم محبة صنع المعروف وحلّ المشاكل الأهلية توفيراً للوقت على الولاة والمسؤولين وقطع دابر الصغائر حتى لا تتحول إلى كبائر فليت أمراء المناطق وأحسبهم - بحول الله فاعلين - يسعون إلى تعضيد هذه الأفكار وتشجيع هذه النماذج من الرجال الأوفياء الأسخياء في كل بلدة، وقرية، وهجرة, عبر لجان المصالحة ومجالس المحافظة فقد عرفها أولئك الرجال الذين ذكرهم الكتاب قبل أكثر من ستين عاماً إذ كان عندنا بدايات جميلة لفكرة مؤسسات المجتمع المدني وإن لم نكن نعرف هذا المسمى إلا بالعبارة الشعبية في تلك السنين (كبار الجماعة) أو (أهل النظر) ما أحلاها من أسماء ساذجة بسيطة ولكن كان لها مفعول وقبول لأنها تنبع من فطرة سليمة ونية حسنة لا يخالطها هوى ولا حيف، الله، الله، على تلك الأيام ولدي أمنية أرجو أن تنهض مؤسسة الجزيرة للصحافة بها: عبر فتح باب الحوار لإعادة إحياء بعض تقاليدنا الجميلة، أرانا نتمسك بالسيئ منها ونهمل الجيد... عجيب والله أمرنا..!! لو أدركنا نقصنا كما يقول محمد المسيطير...!!

فيا أخي خالد أضف إلى ما جمعت في هذا السفر فضلاً بل فصلاً في إحياء التراث الاجتماعي الذي حُرّف معناه أو انحرف إلى غير مجراه...

الطائف - عصبة الأدباء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد