يصعب أحيانا تصوير حقيقة (الأزمة الورقية) في الميدان التعليمي من خلال أسطر معدودة، وأصعب من ذلك إقناع كثيرين من رواد وأساتذة التربية في المؤسسات التعليمية بأنهم يعيشون في أزمة، فبعض ما تخفيه المشكلة يشتمل على بعض المناهج والدراسات التي يعتقد بأنها صحيحة، وتتعدد وجهات النظر من قبل المهتمين بالفكر التربوي.
فبعضهم يأتي بالحلول الجزئية، دون إلمام بحقيقة الأزمة، أو تشخيص صحيح يسبر أغوارها الفكرية، ولهذا فإن الداء ذاته قد يعاد رسم معالمه في بعض الحلول، ولكن بصيغ ورقية أخرى، وعلاج كثير من قضايا التعليم لا يحتاج إلى بذل الأموال في الإنفاق على التقنيات والأعمال الإجرائية بقدر ما يكلف جهدا فكريا لتغيير القناعات.
وقد يُظن بأن استخدام البرامج الحاسوبية في تنظيم أعمال التعليم المختلفة كبرنامج معارف وبرنامج المرشد والبرنامج المساعد في الإدارة ونحوها هو الطريق الصحيح لعلاج الأزمة الورقية، وهذا تفسير غير صحيح للأزمة، بل إن ضجة الحاسوب في التعليم، لم تزد الأزمة إلا تكريسا وعمقا، ولذلك لا بد من تفسير واضح لمفهوم الأزمة الورقية، فنقول: إن كل أنظمة، أو إحصاءات، أو تجميع معلومات، أو دراسة حالات، تستهلك الوقت والجهد من العاملين، مع قلة كفاءتها في خدمة البيئة التربوية والتعليمية، فهي تشكل أزمة ورقية. وبتوضيح آخر يمكن أن نقول بأن الأزمة الورقية تعني أنك تستهلك وقتا طويلا في عمل نظام إجرائي أو دراسات تربوية، أو أنشطة طلابية، أو مقاييس للتحصيل العلمي أو التربوي دون أن يكون للتعويل عليها أي آثار أو مخرجات تربوية أو تعليمية جيدة.
وهذه الأزمة تنعكس على ثلاثة أبعاد من أعمال المؤسسة: بعد النشاط العلمي والعملي الذي يقوم به الطلاب، وبعد القياس التربوي والتعليمي، والبعد التنظيمي الإجرائي في العمل الإداري.
وسنتناول هنا توضيحا لانعكاساتها على تلك الأبعاد، مع توضيح لمرجعيتها الفكرية والنفسية، ونبدأ بانعكاسها على النشاط العلمي والعملي للطلاب، فعندما يعقد مدير المدرسة الاجتماع لا تخلو الطاولة من الاقتراحات الحصيفة من بعض المعلمين المجدين الذين يحملون الهم التربوي، وقد يستلزم بعضها شيئا من الصلاحيات التي لا تعارض مواد التعليم الأساسية، فلا تجد لها قبولا عند المدير لأنها لا تستند على نظام منصوص عليه، ويقرر بأنه منفذ وليس مشرعا، فيقطع كل رأي، ويطفئ كل حماس، ثم يطلب من الجميع أن يستمعوا إلى قراءة التعاميم الواردة من المؤسسة التعليمية، والتي تصاغ تعليماتها دون فهم واضح للميدان المدرسي، بل وتجعل من تنفيذ تلك التعليمات أمرا تربويا ملزما، فيكون من بينها تعميم يذكر بحلول مناسبة (اليوم العالمي لشرب الحليب) ولأجل ذلك اليوم على المدرسة أن تستغل الإذاعة المدرسية وحصص النشاط المختلفة، لإشاعة هذه الثقافة الصحية، وتعميم آخر بمناسبة رعاية السجناء وأسرهم يوصي بتعاطف طلاب المدرسة معهم، وذلك من خلال كلمات الإذاعة وتفعيل حصص النشاط وعمل المنشورات وتعريفهم بالجمعية المعنية بذلك، وتعميم آخر بمناسبة (اليوم العالمي للفقر) وتعميم بمناسبة (اليوم العالمي لمرض الربو) وتعميم بمناسبة.. وتعميم.... وكل تعميم يطالب بتنفيذ مجموعة من الإجراءات، وهي قد تبدو لمن لا يعرف البيئة الطلابية أعمالا مفيدة، ولكنها في الحقيقة تسرق جهد المدرسة لعمل حملات إعلانية لمؤسسات عامة أو جمعيات خيرية أو أيام عالمية، ولا يهتم بمثل تلك المناسبات الراشدون فضلا عن الطلاب الذين لا تعني في تفكيرهم شيئا ولا تؤثر فيهم تربويا، وبينما المدير يقرأ من تلك الأوراق التي لا يقطعها إلا دوي التشاور مع البعض في كيفية تفعيل تلك الحملات الإعلانية تشرد عقول أكثر المعلمين المهتمين إذ لم يعد هنالك جدوى من حضورها، إذ الجادة تقتصر على كيفية تنفيذ القرارات المركزية بحملات شكلية، وهي تخلف تساؤلات حقيقية عن جدوى تلك الاجتماعات، ما دام أن المعلم أداة تنفيذ فقط، وفي نهاية الاجتماع لم يوقظ العقول من شرودها إلا صوت المدير قائلا لأحدهم: (وقع على ورقة محضر الاجتماع يا أستاذ)!
ينتهي الاجتماع بالتوقيع على توصياته، وتبدأ (مدرسة الورق) في ممارسة مهامها التربوية، فيذهب كل معلم في إنجاز أعماله المكلف بها، هذا يخرج من المدرسة تاركا ركام الحصص وراء ظهره بأمر من الإدارة لتصميم لوحات إعلانية عند إحدى مؤسسات الدعاية والإعلان، حتى تكون بالقرب من الإدارة ليراها الزوار، وهم مشرفو إدارة التربية والتعليم خاصة، وذاك يجتمع ببعض الطلاب المتقنين للحاسوب ويطلب منهم إحضار تصاميم ومنشورات للمعرض الذي سيقام على أمل أن يحوز على تقييم جيد من المشرفين، وثالث يكتب تقريراً عن نشاط ورقي وثقة بمجموعة من الصور الفوتوغرافية المتكلفة حتى يرفع إلى إدارة النشاط، ورابع أخرج الطلاب من إحدى المواد العلمية المهمة ليصبغوا حيطان المدرسة برسومات سطحية، والأعجب أن أحدهم ذهب إلى أقرب محل للتموين الغذائي واشترى علب الحليب حتى يشربها بعض الطلاب في يومها العالمي المشهود مع تصوير المشهد وتوثيقه، وبمثل هذا يتم تفعيل أكثر أمور التربية العملية والأنشطة المدرسية.
تلاحظ أخي القارئ أن المدرسة نشيطة، فالجميع يعمل، والأموال تنفق، والشواهد تعكس صورة الجد والمثابرة، وربما حصلت المدرسة على تقييم جيد من بين مثيلاتها، ولكن مع كل تلك الجهود المبذولة، والأموال المهدرة، وتفويت الحصص الدراسية على الطلاب والمعلمين، لا تشعر بأن هناك تربية حقيقية قائمة على الصدق والإخلاص تغير عادات الطلاب وتنمي تفكيرهم، ولا تعليما قويا يبذل الطالب فيه جهدا حتى يخرج مؤهلا بأبسط متطلبات المرحلة الجامعية، ولا أنشطة مثمرة تنمي المهارات والقدرات، والطلاب الذين قلما يجدوا مربيا أو معلما مؤثرا يدركون أن ما تم لم يكن إلا أعمالا مادية للتمثيل على الزوار، وبينما يستغل الطلاب المجدون كأدوات لعمل تلك الشكليات في أيام الذروة، فإن الآخرين يسرحون في المدرسة بلا رقيب أو متابعة، فالمدرسة لاهية عنهم بأعمال مادية أملا في التكريم المادي. ولم يعد لدينا بد من أن نقرر بأن الطالب في مدارسنا يتعلم النفاق، بطريقة لا شعورية، فهو يتعلم من مدرسة كهذه إحسان العمل من أجل أن يظهر جميلا أمام الزوار والمراقبين والمفتشين والمقيمين، ولم يتربَ على أن يعمل لمجتمعه ووطنه مخلصا يبتغي الأجر من الله، ويأمل الأثر النافع في المجتمع. وما آثار الفساد في مجتمعنا إلا جزء من غياب التربية الروحية والخلقية والفكرية والتي ناب عنهما تربية مادية صرفة، تربية محسوسة ترى وتقاس وتقوم وفق آليات التقويم التربوية الحديثة، ولكن ليس لها أي ثمرة حقيقية في بناء الإنسان.
وأما انعكاسها على أبعاد القياس التربوي والتعليمي فهو أمر بات واضحا فمفاهيم التربية الحديثة التي أغرقت مدرسنا بآليات القياس والتقويم التي لم تثبت في السنوات الأخيرة على نهج، بل أصبح الاعتناء بها أهم من الحرص على ثقافة المعلم المعرفية، ومن التحصيل العلمي للطلاب، لقد أصبح شغل (المدرسة الورقية) هو الوصول إلى الدقة والموضوعية الزائفة في التقويم البشري وستظل (الموضوعية في العلوم الإنسانية هي مشكلتها المحورية) (الموضوعية في العلوم الإنسانية ص 63، د.صلاح قنصوه).
كل ذلك الاهتمام الإحصائي الإجرائي في التعليم والتربية غيبنا عن معرفة معنى التربية الحقيقية والتعليم الجاد، وتلك حقائق أدركها حتى أولياء الأمور البسطاء فحرصوا على نصح أبنائهم في مطلع كل صباح يذهبون فيه إلى مدارسنا الورقية.
إن مدارسنا تترك الإنسان خلف ظهرها، وتفزع وبشكل مرضي إلى الأقلام والأوراق، لحصر الأعداد، وتحرير المحاضر، وكتابة التقارير، ودراسة الحالات... إلى آخر ما ابتدعه لهم علماء القياس التربوي، وعلم النفس من أوهام، إنها عملية هروب يدل على العجز. ولعل مجموعة من المحتسبين جلسوا مع أولئك الطلاب على أرصفة الشوارع فاستطاعوا أن يخرجوهم من مستنقعات الغواية والجريمة والمخدرات ومضوا بهم إلى طريق الصلاح والبناء، بينما لا تزال مدرستهم تكتب التقارير عنهم، وتدرس مشاكلهم، وتشخصها بالأساليب العلمية.
لقد أصبح المعلمون والمربون أدوات تنفيذ للتجارب القياسية والإحصاءات الامبريقية، فجني على التربية، وقضي على بذل الجهد في التعليم وعلى استيعاب المعلومات وحفظ ما يحتاج إلى حفظ، بدعوى التطوير الزائف الذي يتبنى بعض أفكار التربية البرجماتية المادية التي عملت على (سيادة الاتجاه الامبريقي) (التجريبي) فضيقت عملية التعليم، وجعلته لا يشجع على التفكير المجرد (الفكر التربوي مدارسة واتجاهاته ص 256).
وأما بعدها التنظيمي والإجرائي فالأزمة واضحة المعالم، إذ لا تجد منتسبا إلى التعليم إلا ويشتكي من العبء الورقي سواء كان في إداراته التعليمية أو مكاتبها الفرعية، أو في المدرسة، وذلك مع التعاميم الكثيرة، والكراسات الإحصائية والبيانات العامة، وهي تعكس قيود المركزية المبنية على انحلال الثقة بهم، ولعلي قد أطلعت القارئ على بعض أبعاد تلك الأزمة وخلفياتها، ليبقى السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ كيف نعود بالتربية والتعليم إلى أن يكونا ممارسة وجهدا وقدوة أكثر من أن يكون تقويما إحصائيا متكلفا ومتعمقا؟
إنها إشكالات تحتاج إلى مراجعة منهجية، تحصل إذا وصلنا إلى مرحلة من الاستقلال الفكري في المجال التربوي، فغير المستقل يعاني من أزمة الاستيراد دون التفكير في الجدوى، وحديثي هنا معني بمعرفة عمق المشكلة لا بالحل الذي يلح على المؤسسة أن تتخفف مما ليس له علاقة بالتعليم، وإن كانت الوزارة قد تخففت إداريا من كليات المعلمين ووكالة الآثار، إلا أنها لا تزال تحمل كثيرا من أعباء التفاعل الورقي مع كثير من المؤسسات والمناسبات، وأكبر الأعباء وأبعدها عن العلاج هي التي يعتقد أنها أفكار تربوية حديثة، وقياسات وتقويمات بنيت على دراسات وتنظير، فمثل هذا يصعب علاجه مهما بلغ تعقيده وإغراقه للمؤسسة التربوية لأنه ترسخ في الأذهان صحته، ولا يمكن إحداث أي مراجعة حتى تزرع الثقة في العاملين في الميدان ويستشارون عن جدوى تلك الآليات المعلوماتية والقياسية، إن التطوير يستلزم أحيانا أن نعود إلى مفاهيم أساسية بسيطة، إذ إن تقدمنا السابق -الذي أضعف المخرجات- لم يكن إلا مجهودا ورقيا مفعما بآليات القياس والتقويم التي اختفى زيفها خلف رداء العلم، فنأت بنا كثيرا عن بذل الجهد في تعليم الإنسان وتهذيبه. نأمل في وزير التربية والتعليم الجديد صاحب السمو الأمير فيصل بن عبد الله أن يسعى إلى تقليص أبعاد تلك الأزمة وعلاج بعض آثارها، ويعيد للتعليم بمقاييسه الطبيعية قوته وكفاءته.
bannan3@hotmail.com