Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/03/2009 G Issue 13306
الاربعاء 07 ربيع الأول 1430   العدد  13306

عن المثالية أتحدث
عبد العزيز بن عبد الله السالم

 

في مجتمعنا توجد مثاليات فردية قد تستحضرها الذاكرة الثقافية في بعض مناسباتها فبصماتها واضحة، ومؤداها منظور، وفرسانها عدد محدود، وهؤلاء المثاليون أسماؤهم مقروءة في لوحة الشرف الإنساني وعلى نطاق السلوك الاجتماعي، وهم قلة في مجتمعاتهم ودائماً النخبة تمثل القلة التي تواجه المصاعب وتتحمل المتاعب في سبيل بناء الذات:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

كذلك قال الشاعر الحكيم »المتنبي« من قبل، وكذلك يرتفع الذين يتحملون المشاق في سبيل المجد، ومن هذه القلة النخبة يجيء اسم فارسنا: عبد العزيز بن عبد الله الخويطر فله رصيد كبير في هذا المضمار النبيل، وأنا أذكر اسمه مجرداً من كل الألقاب التي يحملها: لقب الدكتوراه وألقاب المناصب الكبيرة التي شغلها، وهذا ما يرضيه بحسب صلتي به وصداقتي له، فهو الاسم الذي عرف نفسه من خلاله منذ أن درج على هذه الأرض الذي يحب أن ينادى به وتحمله بطاقته دون ألقاب كما يفعل كثيرون، وهذا يمثل نكران الذات، وعدم تضخيم »الأنا« كما هي صفة عدد غير قليل من الذين لا يرون أسماءهم منطوقة أو مكتوبة إلا وهي مقترنة بلقب مؤهل يحمله أو منصب يشغله. عرفت النموذج المثالي في هذا الصديق العزيز بعد عودته من بريطانيا عام 1380هـ 1960م وكان أول مواطن من بلادي يحصل على الدكتوراه في وقت عز فيه الحصول على المؤهل الجامعي، وكانت بداية بعثته إلى هناك على حساب والده- رحمه الله- الذي دفعه إلى الدراسات العليا، وفي تلك الآونة كان الذي يعود من مصر يحمل وثيقة تخرجه من الجامعة يرى نفسه قد جمع المجد من أطرافه، وتنعكس هذه الرؤية على نفسيته فنجده يسحب أذيال الطاووسية تيهاً وفخاراً بحصوله على الشهادة الجامعية. حتى لا تكاد تتسع الدنيا لإعجابه بنفسه واستعلائه على الآخرين..

وفي المقابل فإن فارسنا لم تراوده نفسه في يوم من الأيام أن يتباهى بمؤهله الجامعي حينما حصل عليه من مصر ولا بدرجة الدكتوراه التي نالها من انجلترا، وما زاده ذلك إلا تواضعاً فوق تواضعه المعهود، وهو الذي لا يزال يرفض أن يسبق اسمه حرف ال(د) فلم يضعه على مؤلفاته ولم يسمح بوضعه في محاضر اجتماعاته. فضلاً عن أن يذكر هو اسمه مقروناً بلقب دكتور كما يفعل آخرون جاؤوا في أثره وحصلوا على الدكتوراه بعدة بسنين: ذلك أن تواضعه صادر عن طبع غير متكلف منه، وإنما يمثل إحدى صفاته وميزة من مزاياه، وكانت المثالية نهج حياته ومن عوامل ارتقائه في مجتمعه، فكان صعوده في المناصب العالية وحلوله المكانة اللائقة به لدى الجميع ولاسيما لدى زملائه وأصدقائه.

لقد كان مثالياً في سيرته الشخصية ومسيرته العلمية وحياته العملية، وفي معايشته لأفراد المجتمع وفي تعايشه مع سلوكيات الحياة، فهو المتعفف عن المظاهر المادية في عصر تسوده المادة وتطغى على تصرفات أفراده، فالمادة لديه لا تصنف حتى في أدنى اهتماماته ولا تشغل أي حيز من تفكيره، ومن واقع هذه النظرة المتسامية التي التزم بها عاش بعيداً عنها. لا تؤثر عليه في مجاملة على حساب المصلحة، فالدنيا بغرورها لم تستطع أن تغريه بزيفها الخادع ولا أن تغره ببريقها اللامع، والإنسان إما أن يكون عبداً للمال أو يكون المال خادماً له، وما المرء إلا حيث يجعل نفسه.

لقد كانت له مواقفه المشرفة التي اشتهر بها في ابتعاده عن أي استغلال نفوذ أو الحصول على تسهيلات في ظل منصبه، فقد أخضع نفسه لسلوك صارم جعله لا يقبل أن يدخل عليه أي مبلغ من المال بغير وجه حق ونحن معه في ذلك لكنه إمعاناً في التحرج من الشبهات لا يقبل حتى ما هو في صورة حق، فمثلاً إذا كُلف بمهمة رسمية وعاد منها لا يطالب بمصاريف سفرية لأنه يرى أنه ما دام قد تأمنت له وسيلة السفر من إركاب وسكن فإن مغادرته البلاد لا تشفع له للحصول على المصاريف السفرية كما يفعل غيره.. بل إنه يدفع الإكراميات من ماله الخاص وغيره يسجل ما يدفع ويقبض في مقابل ما دفعه، فهو يتعفف عن ماله حق فيه مخالفة ألا يكون له هذا الحق أو شكَّ في أحقيته في أقل تقدير، وأحياناً تصرف له الجهة المختصة بعض المصاريف التي تراها من استحقاقه فيمتنع عن قبولها، لأنها موضع شك لديه، وإن كانت محل استحسان لدى سواه، فهو يحاسب نفسه في الدنيا قبل حساب الآخرة، ويشتد في هذه المحاسبة إلى مستوى يجعل محاولة الاقتداء به في مثاليته عسيراً على من يحاول ذلك، فهو في محاسبة النفس أشبه ما يكون بالقاضي الورع أو الناسك المتبتل. وظل على هذا المنوال في مسلكه الوظيفي منذ أن كان وكيلاً للجامعة وبعدما أصبح وزيراً لعدة وزارات، فهو يتورع عن أخذ شيء مما توفره الدولة في مجال العمل. حتى القلم الذي لا تساوي قيمته ريالاً واحداً لا يسمح لنفسه أن يضعه في جيبه كما يفعل آخرون، لأنه وهو محق يرى أن هذا مال عام سيحاسب عنه مهما قل مقداره، وبهذه الروح المثالية عاش حياته عزيزاً كريماً يعطي ولا يأخذ وينفق على قدر دخله ولا يتطلع إلى ما لدى الآخرين، فقد رزقه الله القناعة وهي كنز لا ينفد، ولا يزال يتعامل مع هذا الكنز الذي بارك الله فيه وأغناه عما سواه.

وهو في جميع أحواله محافظ على نهجه المثالي، وقد أراد أن يربي ابنه »محمد« على النهج نفسه، فعندما تخرج من الجامعة ما سعى من أجل توظيفه لدى المسؤولين الكبار أو زملائه من الوزراء، وإنما صارحه بألا يطلب منه السعي لتوظيفه في الدولة ولا التوسط له لدى أي مؤسسة خاصة، وأن عليه أن يتصرف على اعتبار أن والده ليس وزيراً وأن له جاهاً لدى المؤسسات الحكومية والأهلية، وانما يعتبر نفسه من الذين لا واسطة لهم سوى مؤهلهم وأن يتقدم للمؤسسة التي تتناسب مع اختصاصه، وهي رسالة أبوية رائعة لابنه الذي هو امتداد له وحامل لاسمه ليسير على خطى والده، وقد تقبل الابن البار التوجيه الأبوي دون غضب أوضيق وإنما نفذ توجيهه دون مساندة من أحد ونجح في عمله.. هذا موقف مع أحب الناس إليه وأقربهم منه وأكثرهم صلة به فلم يضعف أمام تدفق عاطفته بحبه لابنه فيبحث له عن وظيفة حكومية وما أكثر المرحبين برغبته، ولم يحاول تزويده بتوصية لمؤسسة أهلية تفسح له المجال بين موظفيها بكل غبطة، وهو يعلم أنه لو أوصى على ابنه لكانت الاستجابة العاجلة، فهو الوزير المرموق الذي بلغت الثقة العالية بمعاليه أن تولى عدة وزارات ورأس العديد من اللجان وشارك في مجالس عليا، ولا تزال الثقة به تزداد فهو مؤهل للتجديد والتمديد بما يملك من رصيد مثالي يتعب كثيرون في تطبيقه على سلوكياتهم.

ولفارسنا مشاركات علمية وأدبية في الساحة الثقافية نتج عنها عدد من المؤلفات سبق أن كتبت عن أكثرها حين صدورها وهي تتمثل في سلسلة تحت عنوان: »أي بني« وفيها استعراض للحالة الاجتماعية التي مرت بها هذه البلاد، وقد قصد المؤلف اعطاء الجيل الحاضر صوراً واقعية عن الأحوال المعيشية والمعاناة التي واجهها الجيل السابق لهذا الجيل من الآباء والأجداد الذين لم ينعموا بالمدينة المألوفة في واقعنا الراهن، ولم يعرفوا الحضارة التي يحياها أبناؤهم وأحفادهم من بعدهم..

وكانت هذه الكتب تجسد شرائح من الحياة السابقة في الجزيرة العربية على وجه الخصوص، والهدف من تقديم هذه الشرائح الاجتماعية أن يدرك أولادنا وأحفادنا ما هم فيه من نعم وفيرة وما يحيطهم من رفاهية واسعة، وفي هذا مدعاة لأن يشكروا الله على النعم التي أسبغها عليهم وأن يحمدوه على ما هيأ لهم من بسطة في العيش وسعادة في الحياة، وذلك عندما يلتفتون إلى الماضي في معاناته مقارنة بالحاضر في رفاهيته.

وفي سلسلة أخرى استطاع أن يقدم لنا التراث العربي الأصيل مستخرجاً له من خزائنه التراثية ومرجعيته أمهات الكتب الموسوعية، وكان تقديمه لهذه السلسلة تقديم المدرك لمحتواها الواعي لمقاصدها، وقد حاول تبسيطها أمام قراء هذا الجيل الذي شغلته الحياة بمشكلاتها وصخبها وزخمها حتى لم يعد يجد وقتاً يرجع فيه إلى كتاب تراثي يعرفه بأمجاد أمته وتاريخها المشرف، وأمتنا غنية بتاريخها المديد ولا تزال آثار حضارتها محفوظة بين صفحات التاريخ، وإن انطوت هذه الحضارة الإسلامية وانطمست تحت هجمة الحضارة الغربية الوافدة التي اقتبست منها وتطورت عنها، وأبناء هذا الجيل بحاجة إلى معرفة آثار أسلافهم ومعالم حضارتهم التي غيبها الزمان في ظل تخلف المسلمين وتقدم الغربيين.. يضاف إلى كتابته عن التراث ما قام به من تحقيقات لبعض المؤلفات العلمية والتاريخية التي صدرت في عصور سابقة، وذلك في عرض حديث يناسب قراء الجيل المعاصر حتى يتم الربط بين ما يعيشونه على هامش الحضارة الغربية المنظورة، وما كان يعيشه الأسلاف من حياة عزيزة وإن كانت محدودة الإطار فإن فيها أصالة ملموسة ورؤية واضحة. وبعد: فإني لم أكتب بتوسع عن الجانب العلمي والثقافي لدى الدكتور عبد العزيز الخويطر لأني أُدرك أن هذا الجانب من حياته ستغطيه كتابات كثيرة، ولذلك فقد اكتفيت بإشارة عابرة في هذا المجال مكتفياً بما سوف يُكتب عنه في المجال نفسه، وقد اخترت أن أكتب عن زاوية قد لا يلتفت إليها كثير من الكتّاب، وأعرف من سمو خلقه أنه لا يحب أن يُذكر عنه مثلما ما ذكرت ولكن الحقائق تفرض نفسها..

وهنا أروي حادثة طريفة تؤكد المثالية الرفيعة التي يصعب علينا نحن من غير المثاليين تطبيقها، وذلك أن وزارة البرق والبريد والهاتف في حينها قطعت عن تليفونه الرسمي الحرارة في منزله لأنه مضى عليه أكثر من عام وهو لم يستعمل، فلما ذكر ذلك للوزير المختص بمحضر من مجموعة من الوزراء أجابه الوزير: بأن هذا التلفون لم تصدر عنه مكالمة واحدة منذ مدة طويلة فظنت الجهة المختصة بالوزارة أن ا لمنزل غير آهل بالسكان، فكان جوابه للوزير: أنه طيلة المدة السالفة لم يتكلم من هذا التلفون لأنه رسمي ومعنى هذا أنه لا يُستعمل سوى في المكالمات الرسمية، ولذا فقد وضع تليفوناً آخر على حسابه للمكالمات التي تصدر من بيته، فلا يتكلم أحد سواه من التليفون الرسمي وهو بدوره لا يتكلم منه إلا إذا كانت المكالمة في عمل رسمي، وقد قطعت عنه الحرارة مرتين لعدم الاستعمال حتى قررت الوزارة بقاءه على ما هو عليه ولو لم تصدر عنه مكالمات، وأمثلة أُخرى على هذا المنوال يتحرى فيها النزاهة المطلقة. حتى أنه يتحرج من أي شيء يدخل عليه ولو كان شيئاً لا قيمة له، لأنه يرى في ذلك مدخلاً إلى قبول ما قد يقع بسببه الحرج.

وهذه المثالية إذا كانت موضع إعجاب المثاليين أو على الأقل المنصفين فإنها موضع تعجب لدى من هم عكس ذلك من الذين تحكمهم أهواؤهم المادية فيستبيحون ما لا يُباح ويفسرون ما يريدون وفق رغباتهم دون التزام بنصوص النظام الموضوع ولا رجوع إلى التعليمات المرجعية، فهم لا ينظرون أبعد من حاجاتهم ولو جاروا على النصوص التي تقيد التعامل الرسمي، ومن مقتضيات العدل أن يسود حياة الناس: سواء منهم من تولى عملاً رسمياً أو أهلياً، وهنا يجيء دور هذا الرجل الإنسان الذي يتعامل مع أفراد المجتمع على مستوى واحد من الإنصاف فلا يجامل واحداً ويتجاهل آخرين فهو يطبق العدالة والمساواة بين جميع أصحاب الحقوق من يعرف ومن لا يعرف، فهم في نظره سواء وفي ميزان واحد لا تميل كفة عن كفة، ولا تطفيفا في المعاملة بين فرد وآخر، ذلك أنه ملتزم كل الالتزام بالأنظمة والتعليمات وهو ليس التزام الجمود النصي وإنما رؤية واعية يتصرف من خلالها بمقتضى المصلحة ويقدر الظروف بقدرها والحكم يدور مدار العلة كما في المصطلح الفقهي، وهو بهذه المثالية قد أتعب كثيرين من أصدقائه ومحبيه وأنا منهم فلم نستطع اللحاق به ولا القدرة على إلزام أنفسنا بما ألزم به نفسه، فليتنا ندرك ما أدركه ونسلك مسلكه، فهو موضع أسوة ومحل تقدير، وعن هذه المثالية تحدثت.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد