حين شرّفتْني ثقافيةُ (الجزيرة) بالدعوة للمشاركة بمداخلة ضمن هذا الملف عن معالي الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويطر، نازعَني حول ذلك شعوران:
شعورٌ بالغبطة أن أكونَ من بين ضيوف) هذا الملف القيّم، الذي تُكرِّمُ به (الجزيرة) واحداً من أهمّ رموز الثقافة في جزيرة العرب، وأعتبرُ مشاركتي هذه بالحديث عن معاليه شرفاً لي بكل مقياس! لكنّني في الوقت نفسه شعرتُ بقدر غير هيّن من الفَزَع خشيةَ أن أُخفقَ في إنجاز هذه المهمة الصعبة إنجازاً يليق بعَلَم في قامة وهامة ضيف هذا الملف. ورُبَّ سائلٍ يسأل: ولِمَ الفزع. فأقول: أفزعُ من الكتابة عن هذا الرجل المتميّز، فهو (موسوعةٌ) ثقافية تشَكلتْ عبر السنين الطويلة حضُوراً، وأداء، وإنجازاً بدأ مسيرته في خدمة الوطن.. في وقت لم أغادرْ فيه بعدُ مقاعدَ الدراسة قبل الجامعية. وأفزعُ، من الكتابة عمّن سمّاه الدكتور يوسف عزالدين جاحظ الجزيرة (**)، فهو أولُ مَنْ حمَل لقب (الدال) في بلادنا متخصّصاً في التاريخ القديم، وهو أولُ أكاديميّ سعوديّ في أوّلِ صرحٍ جامعي يُقَام على هذا الثرى الطيب، جامعة الملك سعود، انتقل منها في وقت لاحق إلى (كرسي الوزارة) ليخدمَ وطنَه في أكثر من موقع، بدْءاً بديوان المراقبة العامة فوزارة المعارف ثم الصحة ثم التعليم العالي قبل أن يرسوَ به قاربُ الإبحار عَبْر شواطئ الوظيفة العامة بتعيينه وزيراً للدولة وعضواً في مجلس الوزراء، منذ نحو عقدٍ من الزمان!!
كان معاليه خَلال هذا المشوارالطويل.. يتولىّ حقائبَ وزاريةً أخرى (بالإنابة) إلى جانب وزارته، أشهُرها وأكثرها تكراراً وزارة المالية، حتى قِيلَ في هذا الصَّدد أنه صاحب الرقم الأعلى بين كل الوزراء عبر نحو ثلاثة عقود، منذ عام 1395هـ، في توليِّ حقائب الإنابة، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمُّها الثقة التي كان وما برِحَ يحْظَى بها من لدُن أُولِي أمر هذه البلاد، وزملائِه الوزراء. إضافة إلى ذلك عُرِفَ عن معاليه بأنه يكادُ يكون الوزير الوحيد الذي لا يغادر وزارتَه أربعةَ فصولٍ في العام، إلا في مهمة رسمية قصيرة لا تتجاوز يوماً أو يومين، وإذا تمتع بإجازة، وقلّما يفعل ذلك، فحَدث فريد، رغم أن هاجس الوظيفة يظلّ يلازمُه حتى وهو مُجَاز، واسألوا عنه في هذا الصوب صديق الطرفين الكبير، معالي الدكتور غازي القصيبي! ويُروَى في هذا السِّياق أن معاليه رغبَ ذات صيفٍ أن يتَمتّعَ بإجازة قصيرة خارج المملكة لم تتجَاوزْ أسبوعين، وكان يومئذٍ وزيراً للمعارف، فطلب من صديقه وزميله في مجلس الوزراء معالي الدكتور غازي القصيبي أن يتولَّى حقيبةَ المعارف نيابةً عنه، خلال فترة إجازته، وتمضي الرواية في القول: إن معاليه كان يتابعُ يومياً من لندن مع الوزير بالانابة شؤون الوزارة وأحوال العاملين بها!
بعد هذه المقدمة التي لم يكن منها بدُّ، أقولُ: إن المرءَ ليحَارُ من أين وبمَ يبدأ، وكيف وبمَ يختمُ حديثاً عن معالي الدكتور الخويطر، الأكاديمي والوزير والمؤرِّخ والأديبُ والإنسان! وأيّاً ما قلت عنه في هذا المقام، فحديثي عنه (مجروح)، لأنه قريب من العين، قريب من القلب، ثم إن سيرته الطويلةَ في دروبِ الحياة تستحقُّ أن يُفْردَ لها سفرٌ كامل لا سطورٌ أو ملف يضمّ صفحاتٍ! هو كاتب بليغ، وهو محدّث بارع.. وروايتُه وكتاباتُه مزيجٌ رائع من التاريخ والتراث والحكمة والخبرة والطرفة، تشكلتْ منها مجتمعةً شخصيتُه عبر السنين حتى غدا علامة مضيئة في جبين ثقافتنا! وإن أعجب من شيء في تأملّ سيرة هذا الرجل، فهو قدرتُه على (الجمع) بين عبء الكتابة وتبعات العمل، قديماً وحديثاً، اذ لا تكاد تمر بضعة شهور، حتى يفاجئنا معاليه بمولودٍ أدبيّ جديد! واليوم.. يقف معالي الدكتور الخويطر هامة رفيعة في أكثر من ميدان: فهو المؤرِّخ، تخصصاً واهتماماً. وهو الأديب عطاءً وإبداعاً. وهو الوزير مهنةً وبذلاً. وهو المؤلِّفُ صاحبُ الإطلالات الشهيرة (الفلكورية) على التراث، يحتضنها أكثر من خمسة عشر مجلداً، امتطى معاليه من خلالها متنَ المعرفة والخيال الأدبي مصطحباً جيلَ اليوم في (زيارات) لمضارب الأمس، وعاداته وتقاليده وطبائع أهله وأساليب عيشهم، وله أحاديث رقيقة مع شباب هذه الأمة جمعها ونشرها عبر خمسة مجلدات، بعنوان (أيْ بني) يخاطب من خلالها الجيل الحاضر، عسىَ أن يتّخذَ من سلفه عظةً وعبرةً.
وأخيراً.. وليس آخراً، هو الكاتب غير المقلّ، في أكثر من مطبوعة محلية، وبخاصة (المجلة العربية) يتحف من خلاله قراءه بأحاديثَ هي مزيجٌ من العلم والخبرة والتأملّ في شؤون الكون وشجونه. وبعد.. فماذا أبُدئ من الحديث وماذا أعيد عن (جاحظ الجزيرة) معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، ورغم أن هذه المداخلة المتواضعة تقترب من خط النهاية، فإنني أوقنُ أنها لم تفِهِ حقه، ولم تنْصفْه بما هو أهل له، وبما له من حق علينا نحن أبناءَه وتلاميذَه ومريديه. نرجو اللّه أن يهبه مزيداً من العمر مطرزاً بالصحة والقوة، كي يبقى إلهاماً لقلمه، وملهماً لمحبِّي أدبه!
(**) يوسف عز الدين، جاحظ الجزيرة يسجل المؤثرات الشعبية في السعودية صحيفة الشرق الأوسط 21-9-2003م