حينما بدأت أخطط لكتابة هذه التداعيات الذاتية عن رموز وأعلام في حياتنا الفنية عشت في حياتهم، كان يدور في ذهني أن أركز في الكتابة على أولئك الذين عشت في حياتهم عن قرب، ولامست نوازع هواجسهم وناقشتهم وناقشوني
وتعلمت منهم في حياتي الثقافية بالقدر الذي تلاحقت فيه ثقافتي بثقافاتهم ومعظم هؤلاء تجمعني بهم زمالة المهنة والهم العام، وقد تبين لي ان هناك رموزا تلامست أشجان حياتي بهم عن قرب على نحو ما، وهم ليسوا زملاء مهنة، لكنهم رموز مهمة من إعلام الحياة الثقافية في بلادنا.
تعلمت منهم علوما على بعد التامس، وقربه الخاطف الذي جمعني بهم في مناسبات.
فأخذت من سيرتهم ما يجعلني بشكل ما عشت في حياتهم ويبرز اسم الدكتور «عبد العزيز الخويطر» كنموذج لهذه الحالة.
كنت أعرف في باكر حياتي أن (عبد العزيز الخويطر) من أوائل الذين حصلوا على الدرجة العلمية «الدكتوراة» في بلادنا، ولذلك كان طريقه الطبيعي يتجه نحو الجامعة الأولى في بلادنا «جامعة الملك سعود» الذي كان أول مدير لها الراحل «الدكتور عبد الرحمن عزام» عند إنشائها عام 1377هـ وكان الدكتور الخويطر أول أمين عام للجامعة عام 1380هـ ثم أول وكيل لها عام 1381هـ وقد راق في ذهني ان أرصد أوليات هذا «الأول»، فمن أولياته تلك أنه كان أول الذين حصلوا على درجة الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام 1380هـ من أبناء هذا الوطن، هو كان أول من سجل رسالة للدكتوارة عن «الظاهر بيبرس»، الذي وقف في وجه الزحف التتاري، مع «المظفر قطز» للقضاء على اهم الممالك الإسلامية «مصر» التي كانت تشكل آخر خطوط الدفاع عن هذه الممالك، وكان سقوطها بمثابة سقوط البلدان الإسلامية امام همجية التتار.
وكان أول من ألف كتاباً عن مؤرخ نجد الاشهر «عثمان بن بشر» ومنهجه في كتابة تاريخه، كما خص «بن منقور» احد مؤرخي نجد بنشر كتابه في التاريخ عام 1390هـ وكان هذا التحقيق هو الأول في مجاله.
وقد أمضى واحداً وعشرين عاما في منصبه كوزير للمعارف، على نحو يكاد هو الأول في ذلك.
وعلى نحو من هذا النسق الأولي أخذ سير حياته يتجه إلى التفرد والتميز في حياته الخاصة، وفي حياته العملية التي كانت تتسم بأوليات حاسمة وحازمة في الأداء، وحينما أصبح وزيرا لوزارتي الصحة، والمعارف وهو الوزير كان أول من يحضر إلى عمله من الموظفين.
وحدث ذات يوم ان زرته في مكتبه بوزارة المعارف قبل أن ينتصف نهار العمل، دخلت إلى المكتب، وكان اول ما لفت انتباهي انه مكتب متواضع، لم يكن فيه ما يبهر. كان يجلس خلف مكتب في ركن من أركان الفضاء المساحي، المكتب لا يشغل حيزا من هذا الركن ربما كان عرض المكتب مترا ونصفا.
الملاحظة الأهم ان المكتب كان يخلو من أي معاملات، فلا تعلوه ملفات أو حتى اوراق سألته أين المعاملات؟ قال لقد انجزت عمل الوزارة مبكراً.
كانت هذه المرة الأولى التي أجلس إليه عن قرب، وأستمع إليه كان لحديثه الهامس، وقع الصدى في نفسي لا يزال عالقا حتى الآن. تذكرت ان في الصوت الهامس قوة التأثير وحجية القول.
ولمعت في ذهني نظرية شيخ النقاد «محمد مندور» حول «الشعر المهموس» وأن فيه جماع الصدق والتأثير، أكثر من ذلك الشعر الخطابي، عالي الصوت وأن النجوى في الحديث إحدى علائم الصدق والتأثير، وكنت أعلم ان هناك كثيرين من أصحاب المصالح الخاصة، ممن لا يعجبهم انحياز الدكتور الخويطر للحق والصالح العام، ويرون فيه مسؤولا متشددا، يصعب انحيازه إلا للحق.
وقد جئت لمقابلته لإنهاء معاملة محجوزة أثناء إقامة معرض للكتاب في دار الكتب الوطنية، وكان قد تم أثناء المعرض اختيار مجموعة من الكتب العربية والانجليزية للمكتبات العامة التابعة للوزارة، وظلت هذه الكتب محجوزة انتظارا لإنهاء إجراءاتها المالية في انتظار موافقة الوزير الذي كان منطقه قوياً واضحاً، إذ قال: إنه لم يكن هناك اعتماد مالي لهذه الكتب في الميزانية، وانه لا يجوز صرف أي مبالغ لم يكن لها اعتماد في البند المخصص لذلك.
وهو خطأ اشتركنا فيه مع اللجنة التي اختارت الكتب على أمل تخصيص بند لذلك، وقد مر على هذه «المعاملة» ميزانيتان مما عقد إجراءاتها المالية حيث تقضي التعليمات بعدم الاعتماد المالي على إجراءات مالية في ميزانية سابقة.
وبالرغم من الضرر الذي لحق بنا في «دار المريخ» حيث لم يعد ممكنا إرجاع الكتب لناشريها الأصليين، وهو مبلغ يتجاوز اربعمائة ألف ريال.
فقد تجرعت الخسارة أمام منطق الوزير الذي كان يحافظ على المال العام، وتلمع يداه بالطهارة، ولمعت في ذهني حكاية «قلم الرصاص» التي سيأتي الحديث عنها في سياق هذه التداعيات، وقد كنت أعجب كيف استطاع أن ينظم وقته، وهذه مسألة مهمة لمسؤول مثله مثقل بالأعباء والمهام.
فإلى جانب قيامه بأعماله الرسمية نجده يوزع بقية الوقت للشأن العائلي، وللقراءة وللرياضة، والكتابة.. ومقابلة محبيه في
صالونه الذي منحه وقتا ما بين المغرب والعشاء مرة في الأسبوع. في هذا النسق من الاهتمام بتوزيع الوقت ملمح أساسي من تكوين هذه الشخصية، فهي شخصية واضحة المعالم، لا تعمد إلى إهدار «الإمكانات» ليس هناك ازدواجية القول والفعل في هذه الشخصية. حينما انتقلت إلى العمل في «جامعة الرياض» جامعة الملك سعود وفي نفس المكتب الذي كان يترأس مكتب وكيل الجامعة «لم يكن للجامعة في ذلك الوقت منصب مدير وكان وكيل الجامعة هو المنصب الأعلى في الجامعة حينذاك حدثني الأستاذ «إبراهيم القاضي» مدير مكتب وكيل الجامعة عن واقعة تستحق أن تذكر في هذا المجال.
قال: في أحد الايام وبعد انتهاء الدوام كان الدكتور عبد العزيز آخر من يغادر مكتبه في الجامعة، وكنت ما زلت في المكتب بعد مغادرته، ولكني فوجئت به يعود إلى المكتب، فسألته عما إذا كان يريد أمرا ما أقضيه، فقال لي: لا لكنني أخذت معي قلم الرصاص هذا من المكتب لان ابنتي طلبت قلما ولما كان الوقت لا يسمح بشراء قلم من السوق، فقد أخذته على عجل لتقضي به حاجتها ثم أعيده غدا لكنني فكرت مليا انني ربما لا اتمكن من اعادته لأي سبب من الاسباب، فقررت أن اعيده للمكتب، وفي العصر نشتري لها قلما..
وكنت أستمع إلى هذه الحادثة مندهشا لحالة غير المسبوقة في هذا الزمن يندر حدوثها، فقلم الرصاص، كالورق والدبابيس من العهد المستهلكة، ليس عهدة «معمرة» يجب إعادتها، وكنت في مناسبات ينتعش النقاش فيها مع أصدقاء عن أساليب الاداء في الإدارة، ينهض عبرها اسم الدكتور الخويطر بارزا شامخا للأداء الملتزم، فأعيد ذكر هذه الحادثة كنموذج بسيط عارض، كبير في معاناة، ويصدق في هذا المجال ما قاله أحد هؤلاء الاصدقاء الدكتور عبد العزيز السنبل نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة الذي قال بعد أن سمع مني هذه الواقعة: الدكتور عبد العزيز الخويطر حالة استثنائية في حياتنا العملية والاجتماعية، تتسم بعدم الازدواجية في العمل يفضل دائماً بين الخاص والعام لا يتردد في الوقوف إلى جانب الحق، وإعلاء شأن من يستحق هذا الحق، له مواقف مشهودة في ذلك.
في الشأن الخاص المعلن وضع الدكتور الخويطر مجموعة مهمة من المؤلفات جميعها مهما اختلفت موضوعاتها تشف عن مكونات ونوازع هذه الشخصية التي تعبر عن معان بارزة هي أمثولة لطريقة حياة، تشف عن القدوة المتميزة.
ومن اطلع على كتابه »أي بني» وهو كتاب ضخم من خمسة اجزاء أمضى في كتابته خمس سنوات، ما بين اعوام 1409 و1414هـ، وهو كتاب من جمل الكتب في المكتبة العربية، لمعت فكرته في ذهنه منذ عام 1388هـ حنيما كان يكتب عمودا في جريدة (الجزيرة)، ثم وضعها في كتابه «من حطب الليل» عام 1398هـ وقد وجه هذه الكلمات أساساً إلى ابناء هذا الجيل الذي نشأ بعد جيله ولم يشاهد ما شاهده، ولم يعان ما عاناه جيله.
هذا الجيل يقول عنه في هذا الكتاب: «هذا الجيل الراكض اللاهث هو الذي أخاطبه، ليقف ويلتفت خلفه، ويرى ما كان عليه ابوه، بمحيطه وآلاته ومعداته ودوابه ومساكنه وعاداته، بأفراحه وأحزانه بآلامه ومتعه، بوجده وعدمه، بتفكيره وانطباعاته، ويقارن بين ما كان والده عليه وما هو نفسه عليه، ويقول لما حباه الله به الحمد لله رب العالمين».
والكتاب على هذا النحو يجمع بين صور التراث، كأساس وكمحور لرؤية تنفد إلى الجديد المعاصر، في مواءمة تهدف إلى انتزاع العبرة والدرس.
أما النهج الذي اختاره لتوصيل افكاره ورؤاه فيقول عنه: «قررت أن أسير فيما أكتبه على طريقة حديث المجالس لأني نظرت في تأثير حديث المجالس في الناس فوجدته بالغاً، ووجدت ان اصغاءهم كامل، وبهجتهم في الغالب طافحة، وأنهم كثيرا ما يتناقلون ما يقال، ويسيرون بمقتضاه فطمعت أن يحظى ما سوف أكتبه بما تحظى به أحاديثُ المجالسِ».
أما كتابهُ الموسوعي «اطلالة على التراث» فقد شرع في كتابته عام 1414هـ ونشره في سلسلة من المقالات في صحيفة «عكاظ» حتى استوى على ستة عشر جزءا، وفي ظني أنه سوف يستمر في نشر أجزاء أخرى من هذا العمل الهام، لأن بحر التراث واسع، يغري بالسباحة فيه، والدكتور الخويطر واحد من أولئك الذين يجيدون السباحة والغوص في اعماقه واستخراجه الدرر منه، وهو في هذا العمل المخصب المثمر، ينتقي قصصا ونوادر يزخر بها بحر التراث، بما ترمز إليه من معان، وبما تلمع به من عبر، يتدبرها ويتبصرها ويقارنها ويوازنها، نازعا إلى موقف مهم من كل ذلك ألا وهو معرفة «الصحيح من هذا التراث من المختلق، والاصيل من الدخيل، والواقع من المتخيل» والواقع ان هذا المنحى غاية في الأهمية، ذلك ان التراث العربي الذي وصل الينا مؤلفاً على ضخامته، قد خضع لما يحتاج إلى تدقيق وتحليل، وأعمال مبدأ القياس العقلي والعلمي، في تمحيص ما ورد فيه من مبالغات هي ما يعنيه المؤلف «بالأصل والدخيل».
ان سمات شخصية الدكتور عبد العزيز الخويطر عنوان على النزاهة وطهارة اليد، ونموذج لإعلاء عوامل الاستقامة، وعدم الميل الذي تمليه الأهواء الشخصية، وطبائع النفس المتغيرة، ولأن يبقى في مواقع صنع القرار العام، فهو أهل لكل ذلك.