هناك أقوال مؤثرة ومتواترة سواء عامية أو عالمية, وفيه توجهات معروفة وشائعة صاغتها الصدفة أحياناً والتجربة الشخصية ومصارعة الحياة ومغالبة الأيام غالباً، وأعلن ميلادها وسقاها بعرق جبينه نكرة من الناس في جلسة عصف ذهني عارض، وسرعان ما خدمتها حزمة من الظروف والإرهاصات حتى وصلت إلى شريحة عريضة من المجتمع وبأسرع من البرق، هذه الأقوال وتلك التوجهات الشائعة والمتعارف عليها تمثل بالنسبة للبعض منا مسلمات قطعية مع أنها ربما لا ترقى لدرجة الظن وقد تكون مجرد وهم عشعش في رؤوسنا ولم نسبر أغوره بعد ولم نضعه على المحك حتى الآن، ومن نافلة القول هنا أن الإعلام سواء بصورته المعاصرة أو القديمة لعب وما زال دوراً هاماً في بلورة هذا التوجه وصياغة تلك القناعة المرضية التي لها أثر في حياتنا شعورياً أو لا شعوري سواء الحياة الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية بل ربما وصل الأمر إلى سلوكنا الديني وللأسف الشديد!!، والعجيب أن القليل منا من يبدأ حين سماعه لمثل هذه الأقوال من مرحلة الشك فيما يسمع أو يقرأ أو حتى يقول وكأنه يتعامل مع نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا أكتمكم سراً أنني استفدت كثيراً من قرأتي في تراث الفكر العالمي وعلى وجه الخصوص الفكر الماركسي، ليس فيما يطرح من نظريات وما ينسج من خزعبلات ولكن استفدت في منهجية تحليل النصوص والقراءة النقدية الواعية لما أسمع أو أقرأ من كلام وحكم وقناعات، لن أسرد رحلتي مع الشك، ولا يهم إلى أين وصلت ولكن ومن باب الشيء بالشيء يذكر، كنت نهاية الأسبوع الماضي في جلسة مع عدد من المثقفين والكتاب وكان الحديث جلداً للذات شّرق وغّرب واستقر به المقام - بمناسبة معرض الكتاب - عند نقطة مهمة فحواها (علاقتنا بالكتاب اقتناء وقراءتاً)، وأصدقكم القول إنني كنت في زمرة من لديهم القناعة الجازمة بأننا أمة لا تقرأ وأنا الشاب السعودي لا يعرف طريقاً للكتاب ولا يكترث بوجوده بل ربما لا يعرف كيف يقرأ وأوفرهم حضاً وأكثرهم قراءة من يقلب في الجرائد اليومية لشغل فراغه الذي لا يعرف كيف يمضيه، ولكن وبصراحة متناهية بدأ الشك يساورني في هذه القناعة فقط خلال هذا الأسبوع، نعم اهتزت قناعتي هذه التي كانت بمثابة مسلمة مفروغ منها، والسبب أنني كنت في معرض الكتاب خلال الأيام الأربع الماضية ومع ارتفاع الأسعار - الارتفاع المبالغ فيه لدى غالبية المكتبات- إلى أن كثرة الرواد للمعرض وحركة البيع اليومية تلفت الانتباه وتعطي مؤشراً إيجابياً على تفاعل المواطن السعودي مع مثل هذه التظاهرات العلمية الرائعة، ومع أن هذا مهم لكن الأهم منه وما أتمناه ظهور دراسة ميدانية على (معرض الكتاب) هذا العام وكذا العام القادم تعطي للقارئ الكريم نوع الكتب التي كان الإقبال عليها أكثر من غيرها، وتقصي الأسباب التي تقف خلف ذلك، وأي الجنسين أكثر إقبالاً على الكتاب، وأعمار القراء ومستواهم الدراسي ومن أي الطبقات الاقتصادية والاجتماعية هم إن أمكن ذلك، وإن كان هناك تغير في سلوك القارئ السعودي تدرس أسبابه ويتعرف على أبرز معالمه وما إلى ذلك من تساؤلات تخدم صاحب القرار ومؤسسات التخطيط ورسم الإستراتيجيات المستقبلية في البلاد، والمعني بمثل هذه الدراسات المهمة والدقيقة الجامعات السعودية التي تحتضن كراسي البحث العلمي المختلفة، وقياس الاتجاهات في أي موضوع كان مهم، وهو في هذه الوقت وبحق الكتاب بالذات أهم، ويمكن أن تكون هذه الدراسة الاستكشافية في نهاية المعرض عن طريق المرور على جميع المكتبات وتوزيع استبانة محكمة تتضمن كل هذا وغيره كثير وربما عنّ في خاطر الباحث وقفز إلى ذهنيته ما هو أجدر وأهم، الشيء الذي أحب أن أذكر فيه نفسي والقارئ الكريم في ختام هذا المقال الانطباعي الأولي هو تربية الجيل على القراءة وتعليمهم كيف يقرؤون وتعوديهم على التحاكم إلى منهج علمي رصين حين تتعارض لديهم القناعات وتختلط في رؤوسهم التوجهات ولم يكن ثمة نص قطعي يكون بمثابة الركن الشديد الذي نأوي إليه ونستلهم منه ما يوجه بوصلة أفكارنا ويصبغ جوانب شخصياتنا وأخلاقياتنا وتعاملاتنا (وكلكم راع وكل مسؤول عن رعيته) وشكراً من القلب لوزارة الثقافة والإعلام على هذا الحدث المعرفي الهام والسلام.