في العادة عندما تأتي العواصف الترابية المحمَّلة بالغبار إلى مكان ما فإنها تملأ أرجاءه بالغبار الذي يزكم الأنوف ويحشر الصدور ويكتم الأنفاس، غير أن عاصفة يوم الثلاثاء الماضي قد أزاحت الغبار والتراب عن الأخطاء الفاضحة التي تسبب تراكمها في خلق الربكة المؤلمة التي حلّت بالكل، وأدّت
.......إلى تسابق الجميع من الآباء على التوجه إلى مدارس أبنائهم وبناتهم مفضلين عدم الانتظار أكثر مما انتظروا، وهم يشاهدون بأم أعينهم أفق السماء ينذر بخطير العاصف من الغبار والتراب والرياح، وفوق ذلك كله ينظرون إلى المتراكم من سواد السلبي من تبعات ونتائج الأخطاء والتقصير في مختلف الخدمات التي لها تماس مباشر مع حياة كل منهم.
هذه المفارقة المبكية بحق تضعنا أمام حقيقة واحدة هي الفشل: الفشل في اكتشاف وجود العاصفة التي كان لونها وغبارها الداكن لا يخفى، والفشل في تتبع مسار العاصفة التي كانت تتبختر في تغطية سماء المدن والقرى واحدة تلو الأخرى، والفشل في التعامل مع الواقع ومعطياته التي أفرزتها العاصفة الرملية وأقصد بذلك ما يتعلق بحركة المرور وأوضاع الطلاب والطالبات في مختلف المنشآت التعليمية واستعدادات المراكز الصحية وكوادر الدفاع المدني وغيرها، والفشل في وضع الإجراءات الاحترازية عند وقوع مثل هذه الكوارث البيئية، والفشل في أن تتواصل مختلف القطاعات الخَدَمية مع بعضها في مثل هذه الحالات، وأخيراً الفشل في منع تكرار الأخطاء القاسية هذه!
أما الفشل في معرفة وجود العاصفة ومن ثم متابعة دربها ومدى خطرها ومناطق عبورها فلا يمكن أن نلقي باللوم هنا على أي جهة سوى الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة التي كان موقعها الإلكتروني في منتصف ظهيرة ذلك الثلاثاء يخبرنا بما يلي عن حالة الطقس المتوقعة ليوم الثلاثاء 13- 03-1430:
(رؤية غير جيدة بسبب الأتربة المثارة والعوالق الترابية الشديدة خصوصاً خلال النهار على مناطق وسط وشرق المملكة يصحب ذلك انخفاض في درجات الحرارة يكون ملموساً أثناء الليل حيث تبدأ الرؤية بالتحسن على مناطق وسط المملكة وتتحرك السحب الممطرة باتجاه مناطق شمال شرق وأجزاء من شرق المملكة خلال النهار في حين تخف كمية السحب تدريجياً خلال الليل وتظهر السحب المنخفضة والمتوسطة على المرتفعات الجنوبية الغربية قد تتخللها سحب ركامية في فترة ما بعد الظهيرة.. الرياح السطحية شمالية غربية إلى شمالية شرقية على شمال وغرب وأجزاء من وسط المملكة وجنوبية إلى جنوبية غربية على بقية المناطق).
فأين التحذير هنا؟ ألم تكن تلك العاصفة بتلك الدرجة من الخطورة التي تستوجب إطلاق التحذير؟ أم أن لمسئولي الرئاسة معايير معينة فيما يتعلق بدرجة الخطورة التي تستوجب إبلاغ الجهات المعنية أن عاصفةً ترابية على درجة كبيرة من الخطورة تستوجب تحذير الجميع؟ ولو افترضنا أنهم في الرئاسة قد عملوا على تمرير التحذير عبر وسائل الإعلام ولم يقم ذلك الإعلام بواجبه، ألم يكن يجدر بهم إظهار التحذير عبر موقع الرئاسة على شبكة الإنترنت؟
وأما الفشل في التعامل مع واقع الحال في أعقاب تغطية العاصفة لسماء العاصمة وكذلك القصور عن اتخاذ الإجراءات الآنية التي تكفل ضمان تسيير مختلف الشئون المتعلقة بمصالح سكان العاصمة في ضوء المعطيات التي أفرزتها العاصفة الرملية فحدِّث هنا ولا حرج طالما كانت الأطراف التي تشترك في هذه المسئولية متعددة، فوزارة التربية والتعليم مطلوب منها أن تكون على أهبة الاستعداد على الدوام للتعامل مع أوضاع مفاجئة كهذه من مثل التدريب المستمر لمنسوبي الوزارة العاملين في المدارس على كيفية التصرف حال وقوع مواقف طارئة لا تقتصر فقط على العواصف الترابية بل وعلى مواقف أخرى قد تؤدي إلى الكوارث لا سمح الله.
والوزارة مطلوب منها أن توفر طاقماً طبياً أو على الأقل طبيباً أو طبيبةً خصوصاً في مجمعات المدارس الكبيرة يكون قادراً على تقديم الخدمات الطبية اللازمة لمختلف الحالات، ولئن كان هذا الاقتراح غير قابل للتطبيق على نطاق واسع فأضعف الإيمان أن يتم تزويد مختلف المدارس والمنشآت التعليمية بالمعدات الطبية اللازمة التي تكفل حصول المصابين من طلابنا وطالباتنا على الإسعافات الأولية ومنها على سبيل المثال لا الحصر أسطوانات وأقنعة الأكسجين التي لا غنى عنها للمصابين بالحساسية والربو والذين يعانون من مشاكل في التنفس ممن يمثلون نسبة غير بسيطة من طلابنا وطالباتنا.
والوزارة مطلوب منها أن تضع بين يدي مسئولي المدارس والإدارات التعليمية بعضاً من الحرية في التصرف واتخاذ القرارات في حالات معينة تستلزم سرعة التصرف والبت المباشر كي لا يكون هناك ضحايا، فنحن لسنا في حاجة أن نضيف المزيد إلى قائمة الأبرياء من أبنائنا الذين يقعون ضحية الإصرار على قرار ما وعدم صلاحية كائن من كان تغييره إلا بإذنٍ مركزيٍ من الوزارة، وما حادثة الطفل البريء الذي توفاه الله العام الماضي بسبب الجو القارص البرودة ببعيدة عن الأذهان.
إن مسألة القدرة على التعامل السريع والفعَّال مع حالات الطوارئ ينبغي أن تكون في قائمة أولويات - لا وزارة التربية والتعليم فحسب - بل وجهات أخرى منها على سبيل المثال الدفاع المدني ووزارة الصحة وإدارة المرور والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني والجامعات، بل إنه من الواضح في أعقاب هذه العاصفة الرملية وجود حاجة ماسة لتنسيق أشمل وأكثر فاعلية وحيوية بين مختلف هذه الجهات وتفعيله بالاشتراك طبعاً مع الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة كي لا نقع في حرج الفوضى المرورية والازدحام والحوادث الكثيرة كما تظهر إحصائيات إدارة المرور لذلك اليوم، وكي لا نقع ضحية التزاحم على مختلف المراكز والمنشآت الصحية بحثاً عن العلاج.
أزمة العاصفة الرملية يجب أن تمثل لنا جميعاً جرس إنذار واختباراً كشفت نتائجه عن ترهُّل واضح في التنسيق والتواصل بين أجهزة حكومية خَدَمية، بل وعجز مطلق عن التفاعل فيما بينها في مثل هذه الحالات، وما تبادل إلقاء تهم المسئولية في ذلك اليوم إلا دليل قاطع على أن التنسيق كان غائباً تماماً، والأدهى والأمرّ هو أن تلك العاصفة سبق وأن ضربت العديد من المناطق والقرى التي تبعد عن الرياض مسافات كبيرة ما يعني وجود مدة زمنية كافية - لا للتحذير فحسب -، بل وأخذ أهبة الاستعداد والتحوط للأسوأ بما يدل على أن المشكلة لم تكن في اكتشاف وجود عاصفة، بل في الشلل الذي أصاب التنسيق والتواصل المُفترض في حالات كهذه.