في أغسطس 1984م شكل رئيس وزراء اليابان (المجلس المؤقت للإصلاح التربوي) الذي أخذ على عاتقه تقصي الحقائق في ذلك المجال فقام بالدراسات والاستقصاءات الواسعة عن الإصلاح التربوي.
ولقد اعتبر تشكيل هذا المجلس وقيامه بواجباته الحركة الإصلاحية الثالثة في اليابان.
- الأولى: كانت حركة تحديث التعليم في بداية فترة (هيجي) Heigi Period.
- أما الثانية: فقد كانت تلك التي جرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
هذا على الجانب الياباني..
أما في الولايات المتحدة الأمريكية.. ففي عام 1984م أيضاً قدمت اللجنة القومية للتفوق في التعليم نتائج دراساتها إلى وزير التربية تيريل. هـ.
بل في شهر ابريل من نفس العام وذلك في تقريرها الأكثر شهرة والمعنون (أمة معرضة للخطر) ذلك التقرير الذي اعتبر رمزاً لإصلاحات العصر التعليمية الذي ينبغي أن يطلع عليه كل مهتم بشؤون التربية ليرى كيف تنتقد دولة عظمى نفسها، وثانياً ليشهد أن استتباب روح النقد وتعاظم دوره يأتي موازياً للرغبة العميقة في الحفاظ على القوة لأمة في الحاضر والمستقبل.
وعودة فإنه في غضون أشهر قليلة حاسمة تالية توصل يوشيو موري Yoshio Mori وزير التربية والعلوم والثقافة الياباني وتيريل. هـ. بل Tereel H. Bell وزير التعليم الأمريكي إلى اتفاق لتنظيم دراسة مشتركة حول التعليم في كلا البلدين.. ولعل من أوائل ما يستحق التأمل الذاتي المتعمق هنا هو حرص كل من الطرفين وكلاهما قوة يعتد بها.
على الحصول على ما يمكن تسميته ب....
(رؤية الطرف الآخر).. (الرؤية من الخارج)..
ومع أن ثمة كراهية أو حساسية معروفة لدى الأفراد والجماعات والهيئات في غالب الأحوال لإطلالة الفحص والانتقاد من الخارج، إلا أنهم مع ذلك فعلوها..!
ولم يتلكأ أحد في تزويد فرق البحث المتبادل بالمعلومات والأبحاث والأرقام والإحصاءات الدقيقة.. ثم يصدر النظر الناقد الفاحص بعد ذلك بلا تحفظات وبلا حرج فذلك أمر غير متصور في مجال يقصد به في النهاية (تقويم خطأ) أو (سد ثغرة).. أو (اجتناء لفائدة) بتطوير أو اقتباس..!
ولاشك أن السؤال يطرح نفسه طرحاً.. فيجعل كل فرد يتساءل لماذا تحرص دولة تمتلك الكثير بكل تأكيد على مثل تلك الرؤية دولة لديها علماء تربية ومنظرون لامعون ومراكز بحوث وإمداد بإحصاءات تخف أجيال الحواسب لتقديمها بالهمس واللمس.. أي أنها دولة أو دول تمتلك بدهياً القدرة على فحص أوضاعها التربوية والتعليمية وتبين أسباب العجز والقصور.. وهي تفعل.
فماذا يفعل الآخرون.. ولماذا لا تتقي (الرؤية الأجنبية)؟؟
ولماذا تصر تلك الدول أن يفتش (الغرباء) عن عيوبها ونواحي النقص فيها؟
لابد أنه الحرص على رؤية الطرف الآخر.. الرؤية من الخارج..
ولعلكم تظنون معي أنه لابد لذلك من مزايا وإلا ما سعوا إليها.. وأجهدوا أنفسهم وقتاً ثميناً ومالاً كثيراً من أجل الحصول عليها.. إن أهل الدار الذين اعتادوا عيوب الدار.. ويستطيبون هواءها ولو تلوث!! فالاعتياد إذن يحجب الرؤية.. وقد يئد الرغبة في التغيير.. ولو كانت إلى الأفضل.
وقديماً حينماكان الناس يدعون إلى الأفضل والأنقى.. كانوا يقولون هذا ما وجدنا عليه آباءنا، واسمع وتأمل قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (23) سورة الزخرف.
فهذه (قوة التعود) لا يستهان بها.. تطمس الرؤية.. وتدهم الحواس فيسقط الوعي الذي تتطلبه قوانين التغيير في ساحة التقدم نحو الأفضل.
وهكذا فإنه قد تقرر أن تجري الأمور على النحو التالي:
- الفريق الياباني: يدرس الإصلاحات التربوية في أمريكا ويصدر بها تقريره.
الفريق الأمريكي: يدرس ما يجري هنالك على نفس الصعيد في اليابان ويصدر هو الآخر تقريراً مماثلاً وقد صدر في النهاية التقريران.
ولم يكل الاهتمام ولم يهدأ دعاة الاصلاح والعاملون له فالإصلاح التربوي كما ذكرنا من أهم مشكلات السياسة والقضايا التي تواجههم.
فانعقدت في اليابان في الفترة من 14-17 اكتوبر 1985م حلقة دراسة حول الإصلاح التربوي لم تقتصر على المتخصصين الأمريكيين واليابانيين الحاضرين بصفة أساسية وإنما ضمت إلى جانب ذلك متخصصين من خمس دول أخرى.
وقد تكون أعمال هذه الحلقة مجالاً خصباً لأصحاب شهية المتابعة وقادة الفكر والتربية والإعلام المهتمين بترجمة الحلقة وتحليل أعمالها وتقديمها لمجتمعنا التربوي العربي والإسلامي.
وأود هنا أن أضيف أن هذه الملاحقة التربوية النشطة من جانب تلك الدول المتقدمة للإصلاحات التربوية تعني أن نهر النقد والمراجعة والتصحيح هناك في تلك الدول نهر فياض لا تعترضه العوائق، وأن هذا التدافع المبارك لنهر النقد وتجدده هو ضمان الحفاظ على القوة وتجددها وزيادتها.
فالداء الذي يصيب أي قوة - ولو كانت قوة عظمى - أن يتمكن منها تحت أي عنوان ما يحرمها من ملاحظة عيوبها، أما الداء المميت فإنه يكمن في الإعراض عن إصلاح العيوب بعد ملاحظتها.. إن التشخيص المبكر للمرض يعني الاحاطة بالخطر.. أما الجراحة العاجلة والدواء الحاسم العاجل فيعود لهما الفضل في حماية القوة من التحلل والموت العاجل أو الآجل..
إن بروز النقد والنظر الفاحص من قبل الأفراد والجماعات والمؤسسات والمراجعة المستمرة للأنظمة التربوية والتعليمية إنما يدل على وعي المجتمع بدور المؤسسة التربوية وتأثيرها الشامل الذي يفوق - بطبيعة دورها - كافة المؤسسات الأخرى.. والذي يؤثر على كيان الأمة ووجودها ورخائها - وهو ما تطبقه المملكة حالياً من المراجعة المستمرة للأنظمة التربوية والتعليمية وخططها التنموية من منطلق أن كل إنفاق في سبيل تربية وتعليم عالي الجودة يعتبر عائداً استثمارياً واعداً للوطن والمواطن.
لقد رافق إصدار التقارير السابقة إحساسا بوجود أزمة والخوف من أن يصبح أمن الولايات المتحدة في خطر، وبالتحديد ساد قلق يعزى إلى أن الولايات المتحدة التي سادت العالم في مجالات التجارة والصناعة والابتكارات التقنية دون منافسة خطرة من دولة أخرى، تشعر الآن بوجود منافسين لها على قدم المساواة بل ويتفوقون عليها في مختلف أنحاء العالم.
وقد تجلى الربط ساطعاً بين فكرة الأمن القومي للدولة وبين التربية والتعليم فيها في قانون التعليم للدفاع القومي الصادر في الولايات المتحدة عام 1958م The National Defence Education act الذي يقول: (وانطلاقاً من الاعتقاد بأن أمن الأمة والدفاع عنها يعتمدان على النمو الفكري للشباب الأمريكي وتقدمه التقني نص القانون على تخصيص مساعدة مالية من خزانة الاتحاد تخصص للأمور ذات الأهمية لحل مشكلة الطوارىء القومية، مثل إثراء التعليم في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات وإنشاء مدارس ثانوية مهنية محلية).
ولعل هذه النظرة التي ربطت - بحق - بين فكرة الأمن القومي والتربية والتعليم هي مصدر التيسير المالي.. فيما يتصل بتدبير الأموال ورصدها من خزانة الاتحاد لحساب التربية والتعليم بل واعتبار إثراء التعليم وإنشاء المدارس الثانوية المهنية.. من (الطوارىء القومية ذات الأهمية)..
وسيفصح هذا الاتجاه - وتلك النظرة القيمة التي يسرت الإنفاق وتيسره - عن نفسه في نص قانون التعليم الابتدائي والثانوي لعام 1965م حيث ينص في مادته الأولى على (تقديم المساعدة المالية للأطفال والطلبة الذين يواجهون صعوبة في متابعة التعليم لأسباب مالية وقد بلغت قيمة الاعتمادات المخصصة طبقاً لهذا القانون بليون دولار في السنة الأولى فقط.
فإذا ما بهرنا الاعتماد المالي الضخم لأول وهلة ولا ينبغي.. فلابد أن نعلم.. أن تكاليف برامج تدريب طلبة أكفاء في القوات المسلحة سيقل بدون شك عمن يماثلهم ممن لم يتلقوا تعليماً جيداً أو هم بدونه على الإطلاق.
وأن رفع الكفاءة الإدارية بتعليم متمكن يوفر على القوات المسلحة نفقات باهظة في إدارياته.
أما إعداد أجيال من المبتكرين والمخترعين مزودين بتعليم رفيع، فمن الصعب تحديد المكاسب المادية التي تأتي من ورائه لأي أمة تسعى لتأمين نفسها وسلامتها بأفواج من الشباب تم إعدادها روحياً وعلمياً لمواجهة العصر.
وعلى ذلك فكل إنفاق في سبيل تربية وتعليم رفيع القدر ينبغي أن يتم اعتباره عائداً واستثماراً مجزياً والله الموفق.