يبدو جلياً لكل من له ارتباط بحقل التربية والتعليم أن بدايات مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم (تطوير) مرشحة لاستقبال كم كبير من النقد وطرح المتنوع من التساؤلات بشأن الكيفية في وضع المشروع موضع التنفيذ والتعرض للكثير من التدقيق والتمحيص
لمسيرته الأولية من قبل المتخصصين في مختلف علوم التربية والتعليم وهو أمر ينبغي بالقائمين على أمر المشروع وأعضاء مختلف لجانه تقبله برحابة الصدر واستقبال جميع ما يردهم من ملاحظات من منطلق إيجابي يُحسن الظن في من كان مصدرا لأيٍ من هذا النقد أو التساؤل ذلك أن مشروعاً ضخماً كهذا يرتبط بحقل التربية والتعليم الذي له تماسّ وتأثير مباشر على مختلف أفراد المجتمع ونسيجه وهو ما يجعل من المشروع بؤرة جذب للانتباه ومحط تركيز المختصين بالتربية والتعليم والآباء والأمهات وسائر أفراد المجتمع.
وبحسب المفترض فإن المشروع من خلال المعلومات المتوافرة عبر موقع (تطوير) على الشبكة العنكبوتية يهدف إلى (تطوير المناهج التعليمية بمفهومها الشامل لتستجيب للتطورات العلمية والتقنية الحديثة، وتلبية الحاجات القيمية والمعرفية والمهنية والنفسية والبدنية والعقلية والمعيشية لدى الطالب والطالبة؛ إعادة تأهيل المعلمين والمعلمات، وتهيئتهم لأداء مهامّهم التربويّة والتعليميّة بما يحقّق أهداف المناهج التعليميّة المطوّرة؛ تحسين البيئة التعليمية وتأهيلها وتهيئتها لإدماج التقنية والنموذج الرقمي للمنهج لتكون بيئة الفصل والمدرسة بيئة محفزة للتعلّم من أجل تحقيق مستوى أعلى من التحصيل والتدريب؛ تعزيز القدرات الذاتية والمهارية والإبداعية وتنمية المواهب والهوايات وإشباع الرغبات النفسية لدى الطلاب والطالبات، وتعميق المفاهيم والروابط الوطنيّة والاجتماعيّة من خلال الأنشطة غير الصفية بمختلف أنواعها).
ولا شك في أن كل هذه الأهداف على هذا النحو من التفصيل والشمول تبلغ حداً كبيراً من الجمال والروعة والاكتساء باللون الوردي يجعلها أقرب للمثالية ويطغى عليها الطابع الحالم في حال أراد القائمون على أمر هذا المشروع تنفيذها وتحويلها تطبيقا على أرض الواقع الملموس الذي نعيشه جميعا ويعيشه من وضع مثل هذه الأهداف.
من المؤكد بالطبع أنه من حق من تم تكليفهم بزمام الحل والربط في هذا المشروع أن يضعوا نصب أعينهم العمل على تحقيق أهداف طموحة ترتقي إلى مستوى المبلغ الضخم الذي تكرم وتفضل خادم الحرمين الشريفين بتخصيصه لدعم المشروع وترتقي كذلك إلى طموحات وتطلعات القيادة الكريمة وأفراد المجتمع ككل، وهو من دون شك مطلب الجميع أيضاً، غير أن الطموح ينبغي أن يتم تأسيسه على أرض الواقع الفعلي كي لا تكون هناك فجوة بين المُراد تحقيقه وما سيتحقق فعلاً، أو بمعنى أكثر وضوحاً، كي لا يكون هناك فشل محبط في إحداث التغيير الإيجابي عبر مثل هذه الأهداف.
من هنا كان لا بد من الضروري في البدء أن تتم دراسة المعوقات والمشاكل التي تقف حجر عثرة أمام تطور التعليم بوضعه الحالي والتركيز عليها كجزء من عملية تقييم وتحديد الاحتياجات وهي العملية التي تُرسم وتُصاغ بناء على معطياتها الأهداف المطلوبة. وعملية تقييم وتحديد الاحتياجات هذه ما هي إلا جزء من عملية التقييم الأولي.
ما أعلمه ويعلمه كل من يتخصص في تصميم مثل هذه المشاريع أن التقييم ينبغي أن يكون نقطة البداية وأن يحظى بالأولوية القصوى عند تحديد الأهداف.
إن التقييم بكل مكوناته وعلى رأسها (تقييم وتحديد الاحتياجات) هو مفتاح النجاح لأي تخطيط مستقبلي يستهدف التغيير الإيجابي والتطوير الملموس المقترنين بفعالية التنفيذ وواقعية التطبيق إذ يمثل التقييم بمختلف أدواته مصدر معلومات موثقة عن مكامن التعثر في الأداء ومصادر الخلل في التطبيق وبالتالي فإنه يجعلنا نضع أصابعنا بدقة على الاحتياجات الفعلية الحقيقة التي لا بد من سدها كخطوة أولى في التطوير.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجد تطوير يقفز فوق الحاجات الآنية ويتعداها أو أن يبدأ من جديد بشكل كامل يلغي ما قد كان موجودا من قبل.
والحقيقة التي تثبتها مختلف المراجع العلمية في مجالي التربية والتقويم هي أن عملية تقييم وتحديد الاحتياجات المنظمة تلعب دورا أساسيا في تحديد مسار تصميم وتطوير وتقويم أي مشروع تربوي عبر تزويدنا بدقيق المعلومات عن مواطن الضعف والخلل في العملية التربوية وأسباب القصور في الأداء ومن ثم تصميم خطط المعالجة والتطوير وكيفية إحداث التغيير التطويري المطلوب ومن ثم تقويم كل ما تم إنجازه.
بل إن عملية تقييم وتحديد الاحتياجات المنظمة هذه تسهم بشكل كبير وفعال في تحديد أولويات الاحتياجات ونقط البداية في التغيير والتطوير، وفي حالة مشروع (تطوير) التعليمي الذي بين أيدينا الآن يمكن لعملية تقييم وتحديد الاحتياجات المنظمة أن تساعد القائمين على أمر البرنامج وتنفيذه أن يقرروا أياً من مكونات العملية التربوية الوطنية التي يجب البدء بتطويرها: هل هم المعلمون والمعلمات وتأهيلهم أو إعادة تأهيلهم؟ أم أن التركيز ينبغي أن ينصب على المناهج وتطويرها بشكل يواكب متطلبات العصر واحتياجات المستقبل؟ أم أن البيئة المدرسية والتعليمية هي من يجب أن تحظى بنصيب الأسد؟ أم أن الطلبة والطالبات هم الهدف النهائي الذي يتم توجيه العملية التعليمية صوبهم، وبالتالي توجيه التطوير لتحقيق مختلف حاجاتهم؟ ما ألحظه من خلال المتوفر من معلومات على موقع (تطوير) على الشبكة العنكبوتية هو الشمول الواسع للأهداف والعمليات والمشاريع والبرامج فالمشروع يحتوي على التالي من البرامج: (برنامج التأهيل والتدريب، برنامج تحسين البيئة المدرسية، برنامج تطوير المناهج التعليمية، وبرنامج دعم النشاط غير الصفي).
وأما المشاريع فالقائمة طويلة لتشمل كلا من: (مدارس تطوير الذكية، محتوى تطوير الرقمي، مركز تطوير للتحكم والدعم، مركز بيانات تطوير، قاعات تدريب تطوير الذكية، مبادرة حاسب لكل معلم وطالب، الصورة الشاملة للمنهج، التعلم المعتمد على المشروعات، تحسين فعالية التقويم، الربط التقني بالبيئة الطبيعية، المؤتمرات الدراسية، العروض التعليمية الصفية، مبادرة مدرب لكل مدير تعليم، تدريب القيادات التربوية، رخصة ICDL لكل معلم، وأخيراً تجهيزات النشاط).
أمام هذه القائمة المتنوعة من الأنشطة والاهتمامات أجدني مجبراً على التساؤل عن المسوغات والمبررات التي على ضوئها تم اختيار تلك القائمة وهل تم القيام بعملية تقييم وتحديد للاحتياجات قبل اتخاذ القرار بشأن ما ينبغي البدء به وكيفية تنفيذه؟ وهل ستكون هناك أولوية لأي من عناصر تلك القائمة أم هل سيتم التعامل مع تلك العناصر بنفس الأهمية؟ ما هي الآليات التي يسير عليها المشروع وهل هناك توجه واضح له من خلال البدء بشكل تجريبي ومن ثم تقييم التجربة؟ هل تمت الاستعانة بتجارب عالمية سابقة عند تصميم مثل هذه الرؤى؟ وأخيرا ما هي المواصفات المأمولة لخريجي طلاب وطالبات هذا المشروع؟
أتمنى أخيراً ألا تتشتت جهود القائمين على تصميم وتطوير المشروع وسط تلك القائمة الطويلة من الأنشطة والمشاريع والبرامج حتى لا تضيع معها آمال وتطلعات أرباب التعليم وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وكذلك آمال مجتمع بكامله كنا نطمح في أن يلعبوا دورا رئيسا ويشاركوا بشكل فاعل في تحديد ماهية المشروع، ونأمل كذلك ألا تضيع النفقات الضخمة التي تفضل خادم الحرمين الشريفين بتوفيرها هباءً منثورا.