بدائل العقوبات البدنية والسالبة للحرية، وبعبارة أدق (بدائل السجن) إجراء قضائي أخذ يتسع تطبيقه في بعض الدول والمجتمعات الإنسانية المعاصرة، كما أخذ الاهتمام الدولي بتوسيع نطاقه، يزداد بصورة مطّردة.
|
وانعقدت بشأنه عدة ندوات ومؤتمرات دولية، وقد أوصى بعضٌ منها، تحديداً، وعلى سبيل المثال، بعدم إيقاع عقوبة السجن إذا كانت الأحكام القضائية لا تزيد عن (6) أشهر.
|
وفي الغالب فإنّ فئة (الأحداث والشباب) هي الجهة المستفيدة من هذه النوعية من الأحكام القضائية. كما أنَّ دائرتها تشمل الجرائم والمخالفات الشرعية ذات الخطورة المحدودة، والتي تخضع لتقدير القاضي واجتهاده وفق الظروف والاعتبارات الشرعية والقانونية.
|
وتستهدف هذه البدائل إيجاد بيئة عمل مناسبة تساعد الحدث أو الشاب الذي تعثَّر وتنكَّب الطريق المستقيم، على إعادة تأهيله واندماجه داخل مجتمعه، وإعادة بناء شخصيته وسلوكياته، بما يدرأ عنه عبث الماضي، وأخطاؤه، والوقوع من جديد في الجرائم والمخالفات الشرعية التي استدعت توقيفه ومحاكمته.
|
وتتمحور العقوبات البديلة في عدة مجالات، منها: الخدمة الاجتماعية والبيئية، بمراكزها وأدواتها المتنوعة، ومن أبرز نماذج الخدمة الاجتماعية: الخدمة الإجبارية في الجمعيات والمؤسسات الخيرية، والمراكز الصحية، والدور الاجتماعية، ومن نماذج الخدمة البيئية: نظافة الأحياء، والمساجد. والحدائق العامة، ومن البدائل الأخرى: التكليفات الإلزامية: مثل إلزام المحكوم عليهم بحضور دورات تدريبية إصلاحية، أو الالتحاق بجمعيات حفظ القرآن الكريم، أو المعالجة الطبية في حالة الإدمان.
|
وفي مجتمعنا السعودي، تبدو الحاجة، إلى توسيع نطاق هذه النوعية من الأحكام القضائية الاستثنائية ذات الطبيعة الخدمية، فالإحصائيات تشير إلى تزايد مطِّرد في عدد الجرائم والمخالفات الشرعية، التي يمكن أن تخضع لنظام البدائل وخصوصاً أنَّ مرتكبي هذه الجرائم والمخالفات، هم في الغالب، من الفئات العمرية الصغيرة نسبياً، والتي تعاني من مشكلات ذات أبعاد بيولوجية ونفسية واجتماعية، ترتبط بضعف التنشئة، وسوء التكيف الاجتماعي، وضعفٍ عام في رقابة الوالدين، ونقص واضحٍ في الوعي والإدراك، للنتائج السلبية المترتبة على إقدامهم على ارتكاب جرائمهم ومخالفاتهم، سواء على المستوى الفردي، أو المجتمعي.
|
ومن ثمَّ فإنّ موجبات العدالة، والمسؤولية، تستلزم من الأجهزة القضائية، النظر في حالاتهم بعين العناية والرعاية، والدراية والمصلحة، بما يفتح لهم نافذة الأمل والعمل من جديد، للعودة إلى المنهج السلوكي والتربوي السليم، والخروج من دائرة اليأس والضياع، ورسم إطار جديد لبناء الذات، واستشراف آفاق المستقبل، والمشاركة بالتالي في ميكنة البناء والتنمية الدائرة عجلاتها، بوتيرة متسارعة، في هذا الوطن العزيز.
|
هذه العناية والرعاية، تبدو في الأخذ ببدائل العقوبات البدنية السالبة للحرية، والمشار آنفاً إلى نماذج منها، ويتيح (باب التَّعزير) في الفقه الإسلامي، أمام قضاة المحاكم الشرعية، مجالاً رحباً لتوسيع دائرة الأحكام الشرعية المعتبرة، لتشمل نماذج من بدائل العقوبة البدنية.
|
في هذا الإطار تعكف عدة جهات ومؤسسات حكومية ذات صلة، وبالتنسيق مع وزارة العدل، على إعداد دراسات حول مسألة بدائل عقوبة السجن، وإمكانية التوسع في مجالاتها المتاحة، ويشارك في هذا المجهود البحثي علماء ومفكرون متخصصون في العلم الشرعي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، فضلاً عن متخصصين بشؤون الأحداث والأُسرة. وفي السياق نفسه أصدر المجلس الأعلى للسجون عدة توصيات لتفعيل هذا التَّوجه، لثمراته النفسية والاجتماعية والسلوكية.
|
في الآونة الأخيرة تمَّ رصد تطبيقات محدودة، في محاكم المملكة، لبدائل العقوبات البدنية والسالبة للحرية، فقد أصدر بعض القضاة عدة أحكام قضائية تعزيرية بالسجن والجلد، على فئام من الأحداث والشباب، ولكن مع إيقاف التنفيذ، وقد استعيض عنها ببدائل أخرى شملت تكليفات شرعية، وخدمات اجتماعية، ومعالجة طبية، وغرامات مالية، ولا شكَّ أنَّ الخروج عن نمطية الأحكام التقليدية، والعمل بقانون إيقاف تنفيذ العقوبة البدنية، يُعدّ تطوراً إيجابياً على صعيد النظام القضائي في المملكة، ويدفع نحو تشجيع القضاة على مزيد من التوسع في تطبيقات هذه البدائل، وفقاً للظروف والاعتبارات الشرعية. ومما يدعم من هذا التطور الإيجابي صدور تعليمات وتوجيهات رسمية، تلزم الجهات المعنية بتطبيق بدائل العقوبات البدنية على الأحداث الذين لا يتجاوزون الثانية عشرة من العمر.
|
ومن نماذج الأحكام القضائية السعودية الصادرة في مجال بدائل العقوبات البدنية والسالبة للحرية:
|
- الحكم على حدثٍ ارتكب عدة سرقات بتنظيف (26) مسجداً بمعدل ساعة لكل مسجد، إضافة إلى إلزامه بخدمة مكتب الأوقاف في مدينته مدَّة (100) ساعة، بمعدل ساعتين يومياً.
|
- الحكم على شابٍ أطلق النار على خاله دون أن يصيبه بحفر (10) قبور في مقبرة مدينته، على أن يكون عمق القبر (120سم).
|
- الحكم على شابٍ تعاطى المخدرات بإلزامه بالالتحاق بإحدى حلقات تحفيظ القرآن الكريم مُدَّة (6) أشهر.
|
- الحكم على شابٍ ضُبط في خلوة مع فتاة في مقهى بإلزامه بحفظ (3) أجزاءٍ من القرآن الكريم على مدى (3) أشهر.
|
- الحكم على شابٍ أُتهم بالتواطؤ مع لص بإلزامه بدفع غرامة مالية قدرها (3000) ريال لدعم الجمعية الخيرية في مدينته، إضافة إلى العمل مراسلاً لهذه الجمعية مُدَّة شهرين، موزعة على أربعة أيام في الأسبوع، بمعدل ساعة واحدة في اليوم.
|
- الحكم على شابٍ تعاطى مادة الحشيش بالعلاج الإجباري من الإدمان مُدَّة (8) أشهر في مستشفى الأمل.
|
بالمحصلة النهائية يؤكد الخبراء والمختصون على أهمية أن تظل عقوبة السجن، الملاذ الأخير، أو آخر العلاج، بالنظر إلى تأثيراتها شديدة السلبية نسبياً، على الأحداث والشباب، إذ رغم وجود برامج للتأهيل والتعليم والإصلاح داخل السجون، فمن المؤكد أنَّ الإقامة بين جدرانها ستؤدي في الغالب إلى إسقاطات نفسية واجتماعية وسلوكية عليهم، قد تمتد لفترات زمنية طويلة المدى، جرَّاء اختلاطهم مع بعض العناصر الإجرامية الخطرة، وربما يقودهم ذلك إلى محاكاتهم، والتأثر بسلوكياتهم، الأمر الذي ينبغي تلافيه، من خلال البدائل المتاحة، والتي تُعنى بتقوية الوازع الديني، والتوجيه والإرشاد التربوي، والتهذيب النفسي، والتقويم الخلقي. كما أنَّها في الوقت نفسه تُخّفف من الضغط والتكدس البشري داخل السجون. ولعلَّ الدراسات الجارية حالياً تسهم ببلورة رؤية شرعية، وقاعدة اجتماعية، تساعد على رسم خارطة واضحة لبدائل العقوبات البدنية الممكنة، وبنيتها التنظيمية، وإجراءات التنفيذ وتطبيقاته، بما يحفظ للمجتمع الأمن والسلامة، والاستقرار والحماية، ولأبنائنا العناية والرعاية، والإصلاح والتأهيل، وصولاً إلى دمجهم في البناء المجتمعي.
|
|
وَإِذَا النُّفُوسُ تَطَوَّحَتْ في لَذَّةٍ |
كانَتْ جِنَايَتُها عَلَى الأَجْسَادِ |
|