كان الباحث الدكتور عبد الله أبودهش قد زودني بنسخة من: (حياة في الحياة) وكثيراً ما يغمرني بهذا الفضل، حيث أهدى لي معظم كتبه، فله مني الشكر والامتنان، معتذراً له عن تأخري في هذه القراءة (الحياة في الحياة) لأعمال كنت وما زلت مطالباً بها غير محاضراتي والتزاماتي الأخرى التي لو عاشها (الشافعي) رحمه الله ما حفظ مسألة؛ وسبب آخر، تمثل في اعتقادي أن قراءتي لن تزيد الزميل العزيز تألقاً، ولن تنقصه مكانة.
|
أقول ذلك علَّه يعذرني، وقد مرَّ على الإهداء أكثر من تسعة أشهر، فهو يدرك جزءاً مما أعانيه، وهو يعرف أن التسويف قد تملك من أخيه في عصر كثرت فيه الالتزامات حتى أصبحنا فيه (كخراش)!!!
|
أما (حياة في الحياة) فهي أمالي كتبها (أبوداهش عن ذاته) لتصبح أضخم سيرة في عصر يكاد الكتاب يختنق فيه أمام الصحافة الإلكترونية والإنترنت والأخبار والسير المختزلة، والنفور من القراءة الاعتيادية، والذهاب للبحث عن المعلومة عبر ضغطة زر.
|
(حياة في الحياة) سيرة ضخمة زادت صفحاتها على (الألف) صفحة، وذلك خلاف الملاحق والصور والشواهد والشوارد لتصل في مجمل صفحاتها إلى أكثر من (1500) صفحة دوّن فيها (أبو داهش) كل ما له علاقة بحياة الكفاح التي عاشها ولا يزال، وهي حياة حافلة بالدرس والتعب والكدّ والمعاناة، والحزن والقلق والفقد والفرح والطاعة، والوفاء،والكرم والأخذ، والنتاج والإبداع والمجاملات، والصداقة والعمل، والنجاح والتألق والعلاقات والمحبة والدعاء والصحة والمرض والغربة والحنين والترحال والبحث... إلخ ذلك مما عاناه ويعانيه في هذه الحياة المضطربة في كل شؤونها.
|
إن (حياة في الحياة) تمثل حديثاً مكتوباً حاول فيه صاحبه أن يدون كل ما له علاقة به، وما مَرَّ به في حياته، فكان والحالة هذه صورة صادقة له، وعندئذ يتفق مع صورة الشاعر العراقي (الزهاوي - جميل صدقي 1936م) الذي قال:
|
إذا نظرت صورتي |
تقرأ فيها سيرتي |
حتى كأنَّ سيرتي |
مكتوبة في صورتي |
أبوداهش وصورته وسيرته وحدة متكاملة بعضها يغني عن الآخر لتظهر لنا ذلكم البحاثة الصبور في عصر نفد فيه الصبر، المنزوي للعلم في عصر كثر فيه التّسطح، ونفر الناس فيه عن القراءة متجهين للماديات، كما تظهر لنا ذلكم الرجل الدؤوب الذي يعمل بصمت حيث أخذ من العلم السّمت، ومن الحياة الحياء، ومن الواقع الصدق..
|
لقد بدأ (حياة في الحياة) بآية كريمة، وأنهاها بحديث شريف، فكان والحال هذه قد جعل نصب عينيه ما يمليه دينه من الصدق وعدم المحاباة والمجاملة ونقل الواقع دون تزود، على أنها لا تخلو صفحة من صفحات (حياة...) من نفحة دينية عطرة، أو سيرة مشهودة؛ ما أدى إلى كثرة الإحالات، ولذا نجده قد قال في الصفحة السادسة: (أقول: لقد احتكم واقع هذه الأمالي بفضل الله تعالى إلى عدد من المصادر والمراجع المتصلة بحياة الكاتب، حيث كثرت الإحالات، وذكر المناسبات.. وكل ذلك من أجل دفع الحرج عن الباحث، لكي لا يظن ظان نحوه بالتزود في القول، أو عدم التدقيق فيه، بل يجب العلم بصحة ما قيل، والثقة به، فهو واقع لا محالة، وهو ترسم لمنهج الباحث نفسه ذي التوثيق الطويل الذي يعتمده في عمله العلمي لوجود مصادره المقيدة ذات الحضور الوثائقي الصحيح...)(1).
|
أقول ما قال ذلك إلا لأنه يثق أن: (الترجمة مظنة الإغراق والمغالاة غالباً وإعلاء قيمة الذات...)(2)، ولهذا نجده قد حاول أن يكون واقعياً في حديثه عن ذاته، وهذه الواقعية جعلته يوائم بين موضوعاته المتعددة والمتلونة الأمر الذي جعلها (أكثر انطباقاً على حياته؛ لأنها ليست مجال تخمين أو افتراض، ولكنها مجال تحقيق وتثبت وبهذا يصح في التراجم الذاتية مضرب المثل: قطعت جهيزة قول كل خطيب)(3)، ولذا نجد أن الدكتور جونسون وهو أحد الأدباء الإنجليز قد قال عن الكاتب الذي يكتب سيرته بنفسه: (إن حياة الرجل حين يكتبها بقلمه هي أحسن ما يكتب عنه..)(4)، خاصة إذا اجتنب الإغراق في مدح الذات وتحميلها أكثر مما تحتمل بل ينشر الواقع والصدق في كل ما يقول، قال جورج مش: (إن السيرة ما هي إلا وصف لحياة شخص بواسطة الشخص نفسه..)(5).
|
إنني وأنا أقلب صفحات (حياة في الحياة) أجد أن أبا داهش يحاول أن يثبت كل قول بدليل حتى وإن كان هذا الدليل عاماً ولا يخدم ما يقصده إلا لماماً، وهو في كل الأحوال يحاول أن يتحدث بنعمة الله عليه وما وصل إليه في علم البحث والتنقيب وما ناله من جوائز وما حصل عليه من تكريم، وما كسبه في هذه الحياة خاصة رضا والديه عنه، على أن مفهوم التحدث بنعمة الله لا يعني بالضرورة الأحداث الإيجابية في حياته، ولكنه قد يعني أيضاً سرد الأحداث المأساوية والمصائب التي قد لحقت به(6) قال (ابن قيم الجوزية) في تعليقه على الآية الكريمة: { هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..} (40) سورة النمل: (فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور، كما أن المحن بلوى منه سبحانه فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب)(7)، وأبو داهش ليس بدعاً في هذا، أقصد التحدث بنعم الله، فله في (السيوطي) خير مقال إذ نجده يقول (أي السيوطي): (ما زالت العلماء قديماً وحديثاً يكتبون لأنفسهم تراجم، ولهم في ذلك مقاصد حميدة، منها: التحدث بنعمة الله، وقد اقتديت بهم في ذلك، فوضعت هذا الكتاب تحدثاً بنعمة الله لا رياء ولا سمعة)(8).
|
وقال صاحب (حياة في الحياة): (ولولا إلحاح بعض المحبين على كتابة هذه الأمالي لما كتبت..)(9).
|
وهو إلحاح دفعه لكتابة (أماليه) أو ما يعرف في علم السيرة (بالاعتراف) التي سرد فيها ولو بصورة متقطعة أخباره وأعماله وآثاره، ويذكر أيام ومكان نشأته وشبابه وكهولته.. كما يذكر ما جرى له في كل هذه المراحل من أحداث تعظم أو تصغر(10)، إنه قد أودع كل ذلك هذه الأوراق لتتحول إلى أرشيف خاص يجمع فيه بين:
|
* محفوظات الذاكرة مظهراً إياها بأنها كالمعين الذي لا ينضب والحافل بالمعلومات والرؤى والقناعات(11).
|
* محفوظات أرشيفية من مكتبته الخاصة ومظهراً إياها بالثراء أيضاً لتنافس ذاكرته، وليحتفظ فيها بكل شيء يتعلق بذاته منذ صغره إلى شيخوخته من كتب وملفات ومعلومات حتى صوره منذ صغره إلى مرحلة شيخوخته..
|
إن المعينين (الذاكرة، والمكتبة) قد جعلا الأوراق التي حوت الأمالي (الاعترافات) تحوي مقاطع يشرق فيها السرد إشراقاً رائعاً، ولاسيما تلك التي تتوهج فيها الذاكرة بالحديث عن المكونات الأولى من النشأة والتعلم (12) والكفاح في هذه الحياة، وهو كفاح متواصل ظهر ذلك أيام الفرح وأيام الحزن. لقد اختلطت الذاكرة بالمكتبة في صفحات (حياة في الحياة) وكلاهما مكتبة، ولكن الأولى تمثل حديثاً لتسندها الثانية بالأدلة لتظهر لنا (الأمالي) كما قال أبو داهش ولتلتقي ولو بصورة من الصور مع (أمالي القالي)، حيث نجد أبا علي القالي يقول في مقدمة أماليه: (فأمليت هذا الكتاب من حفظي وأودعته فنوناً من الأخبار وضروباً من الأشعار، وأنواعاً من الأمثال وغرائب من اللغات..)(13)، وذلك مع اختلاف في التناول والمعالجة وتباعد في الغاية والهدف، وإن كان الاتفاق في المعينين (الذاكرة والمكتبة الثرة) كما نجدها تلتقي ولو من جانب جزء من جزئيات الموضوع مع (الاعتبار) لأسامة بن منقذ، تلك التي هي عبارة عن مذكرات ويوميات صور لنا خلالها سيرته وأعماله وفروسيته..(14) كما تلتقي مع الترجمة الذاتية (النكت العصرية) لعمارة اليمني(15).
|
كما هي تلتقي مع سير كثيرة كتبت في عصور مختلفة، كتبها أصحابها عن ذواتهم أو عمن حولهم، أو كتبها طلابهم في عصر الوفاء، حيث كان الطلاب إذ ذاك يتصفون بهذه الصفة، وهي صفة تكاد تنتفي في عصرنا هذا بأن لنا ذلك في عقوق الطلاب، وكأني (بأبي داهش) قد لحظ هذا الملحظ وقد قضى أيامه في قاعات الدرس مما جعله يكتب سيرته هذه أو أماليه كما قال، ولتمثل مكتبة متحركة تحكي عن صاحبها عبر عنوان جمع فيه بين الفكرة (حياة) والمعرفة (الحياة) وبينها علامة الجر (في) للاحتواء والتملك، ولم ينسب الفكرة لذاته، بل جعلها أكثر شمولية وانطلاقا (16).
|
وبعد: فتلك كلمات استعرضت خلالها ما أراه مناسبا لعرض مثل هذه (الأمالي) مفضلا أن لو كانت في حجم أقل، وبتركيز أكثر على الشخصية والمؤثرات حولها مع محاولة تخليصها من الملاحق ومن كثرة الشواهد والأدلة والشوارد، فالسير حكي، أو هذا أقل ما يقال عنها، وأثق بأن أبا داهش يملك الأدوات التي تساعده على كتابة سيرة مختصرة في عصر يتم التركيز فيه على الوريقات لأعلى الأوراق، لكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع، فحياة الكاتب بين الكتب القديمة والحديثة ومع المخطوطات والنوادر قد أثرت فيه وعليه حتى في حديثه عن ذاته عبر (حياة في الحياة)، فهو من أولئك الذين يستمسكون بالأصالة الفكرية من الألف إلى الياء(17)، وفقه الله ووفق الجميع لما فيه الخير والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
|
|
(1) انظر: (حياة في الحياة) ص6
|
(2) انظر: التراجم والسير، ص23
|
(3) انظر: السابق، الصفحة نفسها.
|
(4) انظر: السابق، الصفحة نفسها.
|
(5) انظر: علامات (كتاب دوري يصدر عن نادي جدة الأدبي) رجب 1415هـ ج14، مج4، ص52.
|
(6) انظر: علامات، ج7، مج2، ص51 (شوال 1413هـ).
|
|
|
(9) انظر: (حياة في الحياة)، ص1079
|
(10) انظر: التراجم والسير، ص23
|
(11) انظر: السيرة الذاتية الشعرية (قراءة محمد الجبوري)، ص48
|
|
(13) انظر: مقدمة كتاب (الأمالي) ص3
|
(14) انظر: السير والتراجم، ص24
|
(15) انظر: السابق، الصفحة نفسها.
|
(16) انظر: السيرة الذاتية الشعرية، ص49
|
(17) انظر: الشخصية المبدعة (يوسف ميخائيل أسعد)، ص356
|
|